أكرمنا الله بجمال الألوان، وكل منها لها مكانتها.. وحكايتها الخاصة.. وهناك لون واحد غير العالم كما نعرفه اليوم، وهو اللون «الموف». عبر التاريخ، كانت ولا تزال أقمشة وألوان ملابس البشر تعكس مكانتهم وشخصياتهم. وكانت مصادر الألوان الطبيعية المستخدمة في صباغة الأقمشة تشمل النباتات، والحيوانات، والحشرات، والصخور، والأتربة، وغيرها. وبعضها كانت مكلفة جدًا، ولذا فلم يلبس ألوانها إلا علية القوم.. ولو تأملت في اللوحات الفنية التاريخية، ستجد أن اللون البنفسجي الفاتح الشهير باسم «موف» كان مقصوراً على الحُكَّام، وكبار رجال المجتمع، والدين.. والغالب أنك لن تجده إلا في النادر في اللوحات ما قبل القرن التاسع عشر.
كان مصدره كائنات بحرية اسمها «موريكس» في بحر مدينة «صيدا» في لبنان، وغرب المملكة المغربية الشقيقتين.
وكان الحصول على ما يعادل محتوى كيس شاهي من الصبغة من هذه الكائنات يتطلب الحصول على محتوى حوالى ألفي حيوان، ولذا فكان سعره مرتفعا جدا، لدرجة أنه كان يُقاس بقيمة الذهب في بعض الأحيان. وتوجد قصص محزنة على قوانين تم سنَّها في أوروبا للتفرقة بين فئات المجتمع الاقتصادية، والاجتماعية، بناء على طبيعة الأقمشة وألوانها.. وكان اللون «الموف» يحتل أعلى الهرم للتفرقة.. طيب وما علاقة كل هذا بالملوخية؟، فضلا خليك معي.
في عام 1856 تغيَّر كل هذا.. كانت أوروبا تعاني من وباء متكرر مصدره إيطاليا في فصل الصيف واسمه «الهواء الخربان» Mal Aria، ولم يُدرك العلم آنذاك علاقته بالبعوض.. كانوا يعتقدون أن مصدره الهواء الفاسد. وكان سريع الانتشار عبر حدود إيطاليا إلى الدول الأوروبية، وخصوصاً أن المدن الإيطالية مثل روما، والبندقية، وفلورنسا كانت من أهم أقطاب التجارة والحضارة. وكان العلاج الأهم هو مادة مُكلِّفة اسمها «كوينين»، مستخرجة من شجرة «سنتشونا»، مصدرها غابات أمريكا الجنوبية. وحرص العلماء على محاولات لتصنيع المادة في المعامل بدون نجاح، فلم يكن مستوى المعرفة والتحضير الكيميائي على المستوى المطلوب.
وقام العالم البريطاني الشاب «بيركين» بالعديد من المحاولات لتصنيع الدواء في معمله الخاص ليلا نهارا.. وكانت كلها فاشلة فشلاً ذريعاً لتصنيع الدواء، ولكنه اكتشف مادة عنيدة لاصقة لونها جميل، وأطلق على اللون اسم «موف»، نسبةً إلى الاسم الفرنسي للون زهرة الملوخية الشهيرة باسم «مالو» Mallow Flower.. طيب ومالو.
كان اكتشاف لون «الموف» الجديد نقطة تحوُّل حضارية، لأنه كان منعطف بداية صناعة الألوان بتكاليف منخفضة، وبكميات هائلة. فتح فشل نشاط العالم «بيركنز» لتصنيع الدواء عالم صناعات الصباغة الجديد على مصراعيه، فقلص الاعتماد على الأصباغ النابعة من المواد الطبيعية المكلفة.. وتغيَّرت ألوان العالم بأكمله، بدءاً من تلك الفترة في عالم الكيمياء.. فبدأت «ديمقراطية» الألوان، وأصبحت متوفرة لجميع طبقات المجتمع.
ولكن عالم الأصباغ لعب أحد أهم الأدوار في المجال الصحي أيضا.
من خلال التشخيص والعلاج، باستخدام الصبغات فتحت صفحات جديدة مهمة جدا في عالم الطب. ولو تأملت في الألوان الجميلة التي تراها اليوم على الأقمشة المختلفة، ستجد أن بدايتها كانت من محاولات فاشلة لعلاج وباء الملاريا.. ومن زهرة الملوخية.
* أمنيـــــة:
قصص النجاح جميلة جداً، لأنها ملهمة لنا جميعًا، ولكن بعض قصص الفشل تتغلب على قصص النجاح، وتحتوي على الروائع التي تحتاج إلى التحليل، والدراسة، والتذوق أيضاً.
أتمنى أن نتذكر أن فشل العالم «بيركنز» في اكتشاف طريقة تصنيع الدواء نجح في تصنيع الألوان، وكان لون زهرة الملوخية «الموف» نقطة تحول أساسية في تاريخ العالم، وللعلم، فقد اعتمدت المملكة حديثاً استخدام هذا اللون الجميل للسجاد في مراسم الاستقبال في المناسبات الرسمية بتوفيق الله، وهو من وراء القصد.