حزم حقائبه، وأجرى الصيانة الروتينية لجمس العائلة، ومضى مسافراً نحو قريته العريقة، القابعة بين أحضان الجبال الشاهقة، كشجرة اللوز المعمرة التي لا تزال تزهر وتثمر رغم ملامحها البائسة.
لقد انقطع عن -مسقط رأسه- طوال السنوات الماضية تجنباً للمصادمة، لولا تحفيز أحد أبناء جماعته بسؤاله المتكرر له كلما لقيه: «غريبة.. ليش ما تطلع الديرة؟!».. معقباً؛ لقد تطورت كثيراً، وهناك مركز اجتماعي ينظم أنشطة تحتوي الشباب وتنمي مواهبهم، فضلاً عن كرم وطيبة الأهالي، وتلك المناظر الخلابة والأجواء الأوروبية، التي يمتزج فيها المطر بالضباب بالخضرة والمواقع التراثية، لدرجة أنك قد تشعر للحظة بأنك أمام: ساعة بيج بن أو قصر بكنجهام بلندن، أو مقابل: معرض فان جوخ بامستردام، أو بمحاذاة: برج إيفل ومتحف اللوفر بباريس!!
لقد كان وعائلته منتشين بطريق السفر، وهم يستمعون لأخطبوط العود عبادي الجوهر وهو يغني رائعته (أنا مسافر)، خاصة وهو يصدح بكوبليه؛ (ودعت ليل اليأس، شمس الأمل جيه، بالشوق والإحساس، وأحلام ورديه)، قبل أن يرن جوال زوجته، وتطلب منه أن يرخي الصوت، ليشتاط غضباً: هذا وقته؟ لتبشره بعد أن انهت المكالمة؛ «هذولا أهلي يقولون: الله يحييكم تعالوا للعشاء أول ما توصلون»، ليضرب بيده على الديركسيون ويطفئ المسجل متمتماً «سمينا في العزائم»!!
في ثاني يوم لوصوله، وبعد فراغه من الصلاة بالمسجد، تعاقب عليه الجماعة، وكانه لا يزال يجلس بمكتبه يتصفح بريد المعاملات اليومية التي تنتظر إمضاءته: هذا يريده يطلع معه للجبل ليقف مع المهندس على الأراضي ويجري التصويرات الجوية تمهيداً لتقديمها لمنصة (إحكام)، وذاك يسأله متشرهاً عن سبب إضاءته لأنوار البيت كاملة الليلة الماضية مخافة أنه عزم القرائب ولا عزمه، وهذا يعظه بأجر المساهمة في تجديد فرش المسجد، وذاك ينصحه بضرورة تسليم القطة لزفلتة (الطلعة)، وهذا يحاول أن يقنعه (يُفرق) مع الجماعة للمحفظ بعد أن تعرض ابنه ككل عام لحادثة سير وتضررت سيارته!!
لم تكن تلك الطلبات البريئة والعفوية المصدر الوحيد لانزعاجه واشغاله طوال الإجازة، بل لاحظ أنه حتى أعمال صيانة الطرق أو توزيع الماء أو الكهرباء للمشتركين الجدد لا تتم إلا وسط زحمة الصيفية، كما لاحظ أن كل العقول هناك سواء الجاهلة منها أو المتعلمة تصبح محتقنة وتشخصن الخلافات ولا تتحدث بموضوعية، وقد لاحظ كذلك صعوبة التنفس وآلام الصدر التي تنتابه مع أقل مجهود لقلة الاكسجين هناك، كما لاحظ أيضاً أن الأمطار التي طالما سمع عنها ورآها بالسناب استحالت لغبار أضفى للأجواء كآبة فوق كآبتها، وكلما سأل جماعته عن تلك المناظر الحلوة جاوبوه بكل برود؛ لو كنت جيت قبل يومين كان شفت الأمطار الغزيرة والأجواء الجميلة!!
ربما تكون الإجازة الصيفية بـ»الديرة» أوفر مادياً من أي بقعة جميلة بهذا العالم، لكنها بفعل الميانة والمجاملة الزائدة التي تدفع الأهالي هناك لمطالبتك بالانشغال بإصلاح عيوبها، تجعلها أقرب لـ»مهمة عمل» لا ينوبك منها غير الإرهاق والقلق، لهذا فضل بطل قصتنا قطع انتدابه -عفواً إجازته- والعودة فوراً للمدينة تمهيداً لمباشرة العمل، واعداً أهله بأن تكون إجازتهم القادمة بجورجيا أو ماليزيا أو صلالة، المهم أنه يستجم براحته ولا يصادف من يتشره عليه بعد كل صلاة!!
وأخيراً؛ التقى صاحبنا بعد أيام وخلال إحدى المناسبات بالمدينة ابن الجماعة الذي طالما حفزه على قضاء الإجازة في مسقط رأسه -وذلك لقلة ذوقه ولقافته لا لحرصه على مقابلته- مكرراً عليه نفس السؤال؛ غريبة.. ليش ما تطلع الديرة؟! ليجيبه صاحبنا وهي قافلة معه؛ استطلعوا نسمتك!! تراك أنت وأمثالك أشبه باللوز المر الذي أفسد جمال ولذة محصول (شجرة القرية)!!