الجدل الجميل والمثير حول نص حيدر العبدالله الأخير (حيوان المعدن)، ذلك الذي شارك به خلال حضوره لملتقى الأدباء في الطائف قبل أسبوعين، مثال جيد على أهمية الملتقى وجدواه في تحريك المشهد الثقافي، كان الملتقى فرصة للقاء وتبادل الأطروحات، وحضور النص الذي أشعل فتيل النقاش النقدي حول أبعاده الشعرية والثقافية يسهم في تعزيز ثقافة الاختلاف وتعدد الآراء والحوار المتحضر، كما يسهم في رفع مستوى الوعي، إذ تصدى النقاد المتخصصون لتوضيح جوانب نظرية وتطبيقية حول النص كانت بمثابة محاضرات تثقيف وإثراء للجمهور.
لاحظت أن بعض المشاركين حاد في أحكامه، يريد لها أن تكون حاسمة في حقل قائم على وجهات النظر وتتسع فيه مساحة النسبية أكثر من غيره من الحقول، أعني حقل الأدب، ولاحظت تشنجاً غير مبرر، ومديحاً مجانياً أحياناً، ويبدو أن قدر شاعرنا حيدر أن يكون في هذه الزوبعة منذ سطع نجمه، ما آب من جدل إلا إلى جدل.
وحيدر للحق شاعر جميل وحي، لكنه مشاكس أيضاً.. ومشاكساته مؤخراً صارت تجيء على شكل اقتناص لثيمٍ غير مألوفة.. يمكن أن نسميها «أنسنة الأشياء» من حولنا، والقصيدة/القضية (حيوان المعدن) نموذج جيد هنا.. يدخل النص ضمن هذا السياق، ومنظوره بعد-إنسانوي كما نرى، ينظر للعلاقة مع الشيء (السيارة) نظرة تتجاوز النظرة الإنسانوية الضيقة، التي ترى في الأشياء مجرد أدوات لخدمة الإنسان ورفاهه.. السيارة هنا صديق ورفيق درب.
ربما نلاحظ أولاً أن التقريرية والمباشرة تؤثر على شعرية النص.. (ملفوظ النص يحيل على مرجع حاضر في الواقع، أي أن كثيراً من عبارات النص تحيل على دلالات مباشرة ومستخدمة في سياق الواقع غير الأدبي، من مثل: مخيلة العربي تدور، هل السيارة والناقة سيان؟ أو تعرف صاحبها السيارة؟ لا شك الإبل العربية لا تتكرر...). لكني أعتقد أن النص عوّض عن ذلك بتوظيف بُعدٍ آخر من أبعاد الشعرية، يتلخص في استثمار الثيمة (العلاقة مع الأشياء) استثماراً متجاوزاً للمعتاد، وهذا هو السر في رأيي.
اعتمد النص في بناء شعريته كما نلاحظ على محورين:
1) المقارنة بين السيارة والناقة، حيث تلبّست السيارة وظيفة الكائن الحي (المهم) في سياق الجزيرة العربية، وفي هذا التردد بينهما وُظفت الأسئلة، وبعض الاستعارات الجميلة.
2) أنسنة السيارة، بتحويلها إلى صديق (تحفظ السر، تتحمل النزق، تمضي الوقت الطويل، تلتصق بصاحبها وتنتظره في الظروف الصعبة، وتستحيل أنثى متسامحة وصبورة أنثى نادرة.. يكون الوفاء معها معياراً للحكم على الإنسان ذاته، بأنه أهل أو ليس أهلاً للثقة)، وسنجد أن الانزياح يتمثّل داخل هذين المحورين، وتتشكل داخلهما أيضاً الصور الفنية، وبهذا تتجلى شعرية النص.
وهنا أتفق مع دكتورنا سعد البازعي ومع شاعرنا الدكتور حاتم الزهراني في موقفهما الإيجابي من النص.. لكني لا أتفق مع الأخير في قوله: (الشعرية أوسع من اللغة)، فلا شيء في رأيي أوسع من اللغة.. اللغة هي الكون الذي يحيط بنا، والمشيمة التي لا نعرف إن كان خارجها أي حياة.. ولعل د. حاتم يوضح لنا ما قصد في عبارته لنستفيد أكثر، وكان د. سعيد السريحي قد رأى أن النص يمكن أن يدخل ضمن نطاق الإخوانيات، لكن البازعي خالفه في ذلك، إذ رأى أن النص لا يصنف ضمن هذا النوع، ولعلي أتفق مع البازعي، وإن بدا لي أن السريحي كان يقصد نصوص المسامرة التي تقال في جلسات الأصدقاء والإخوة للسمر والضحك والترويح عن النفس، وهي بهذا إخوانيات أيضاً.
أكتب هذه الكلمات والجدل لا يزال محتدماً حول نص حيدر، الذي ألقاه على هامش ملتقى الأدباء، فشكراً جزيلاً له، وله.. كالجَمال بقية.