كانَ أبو الحسنِ عليُّ بن حمزة الكسائي مؤدِّباً لابني هارونَ الرشيد: الأمين والمأمون، وكانت له جلالة وهيبة، فقام يوماً من مجلس الدرس فابتدرَ الأمين والمأمون إلى نعليه كلٌّ يريد أن يقدمهما له، فتنازعا، ثم تراضيا أن يحمل كل منهما نعلاً واحدةً فيجعلها عند قدم الكسائي! فبلغ ذلك الخليفةَ هارون الرشيد، فدعى الكسائي يوماً فقال له: من أعز الناس؟ قال: ما علمتُ أعز من أمير المؤمنين، فقال له الرشيد: بلى، إن أعز الناس من إذا نهض من مجلسه تقاتل على تقديم نعليه وليَّا عهد المسلمين، حتى يرضى كل منهما أن يقدم له واحدة!
هذه القصة العجيبة تكشف مقدار ما كان للمعلم من هيبة وإجلال وتقدير، ولاشك أن مردَّ هذه الهيبة إلى أمرين:
أولهما: شخصية المعلم، وما له من رسوخ علمي، وامتياز تربوي.
وثانيهما: أدب الطالب، وحسن تربيته، وتحليه بالأخلاق الرفيعة.
ذكرتني هذه القصة بكوكبة من الأساتذة العظام الذين درستُ على أيديهم في مرحلة البكالوريوس والذين رأيتُ فيهم نماذج مشرقة للأستاذ المربي المعلم (الموسوعي).
أذكر من هؤلاء معالي الدكتور عبدالعزيز خوجة وزير الإعلام الأسبق، وسفير خادم الحرمين الشريفين لدى المملكة المغربية سابقاً، فقد درسني مادة الكيمياء العضوية، إبّان عمادته لكلية التربية بمكة، وقتَ تبعيتها لجامعة الملك عبدالعزيز، وكان سمح المحيّا، مشرق الوجه، جيد الشرح، حسن الإفهام، وكان مع ذلك يخلق روحاً عالية من التنافس بين طلابه وذلك حين يعهد لأعلى طلابه مستوى بتصحيح أوراق الاختبارات الدورية لزملائه، بإشراف منه ومتابعة ومراجعة.
وممن لا أنسى فضلهم د. أحمد عبدالوهاب خليل، أستاذ المعادلات التفاضلية بجامعة الاسكندرية، كان شديد التمكن من مادته، وله طريقة مشوقة جداً في تدريس المعادلات التفاضلية بأسلوب عصريّ أقرب ما يكون إلى المنطق.. كان هذا العالم الجليل يسمي النابه من طلابه (دكتوراً) فيقول مثلاً: عندي في هذه الشعبة خمسة دكاترة!
كان يقول ذلك في وقت كان الدكاترة السعوديون فيه يعدون على أصابع اليد الواحدة، فانظر كم لهذه الكلمة التربوية من تأثير.
وأذكرُ من أساتذتنا في البكالوريوس العالم الأستاذ الدكتور زكي إبراهيم، أستاذ الرياضيات الفيزيائية، ورياضة الكون والمجرة بجامعة القاهرة، كان هذا الرجل مدهشًا في ضبطه للأرقام والحسابات الرياضية والفلكية، وكانت ميزته الكبرى أنه كان يبعثُ فينا روح الاعتزاز في غير كبر، والافتخار بإسلامنا وعروبتنا من غير غرور، كان يؤكد لكل واحد منا أنه ليس أقل شأنًا من ذلك الطالب الأوروبي، أو الباحث الأمريكي، بل نحن -كما كان يعلمنا- أفضل منهم لأن لدينا جانبًا روحيًا يفتقدونه.
هذه نماذج فقط لبعض الأساتذة الكبار الذين تشرفت بالتلمذة على أيديهم في مرحلة البكالوريوس، أردت من ذكرها أن أبيّن كيف أن الأستاذ الحقيقي يبقى أثره في تلميذه ما بقي حياً.