كل إنسان على وجه هذه البسيطة، غالباً ما يبدأ مسيرته العلمية، العملية، الاجتماعية، بفطرته السليمة، قبل تنتابه صدمة قوية من كيان أو مدير أو شريك، ويصاب بخيبة أمل كبيرة، متذكراً وهو يلملم جراحه ويعيد ترتيب أوراقه، كيف أنه أحسن الظن ومنح الثقة الكاملة، كيف أنه سيستحيل شخصاً آخر، كيف أنه سيعاتب بصمت كل من خذله: «بعد هذا العمر كله، أكتشفت أنك تسلى، ياهي في حقي كبيرة (وأنا يا غافل لك الله)»!
يمنح الطالب كامل ثقته بالشهادة الدراسية، فيسهر الليالي طلباً للدرجات العلى، قبل أن يكتشف بالسنة الأخيرة، أن العبرة ليست بالمناهج التعليمية، وإنما بالاختبارات التحصيلية، لينظر إلى شهاداته يائساً معاتباً وقد أعيته حمى البطالة، ياهي في حقي كبيرة (وأنا يا غافل لك الله)!
يمنح الموظف لجهة عمله فروض السمع والطاعة، ويقضي غالبية وقته في إنجاز مهامه الوظيفية حتى خارج ساعات العمل على حساب صحته وعائلته، قبل أن يكتشف أن العبرة ليست بالإخلاص والتفاني، وإنما بالتزلف والمحسوبية، لينظر بائساً معاتباً لواقعه بعد عدة سنوات وقد ترقى الأقل منه كفاءة وخبرة وإنتاجية، وهو لا يزال بنفس المرتبة، ياهي في حقي كبيرة (وأنا يا غافل لك الله)!
يمنح المشجع العاشق لناديه الراقي الإعجاب الشديد بنجم الفريق، فتجده يمتدح موهبته حتى ومستواه هابط، قبل أن يكتشف بأول اختبار حقيقي لرد الجميل أن ولاء هذا اللاعب ليس للنادي وإنما للعرض المادي (حتى لو كلفه ذلك الانتقال لنادي فقراوي) فيستحيل حبه كرهاً وبغضاً، ويبدأ بمهاجمة موهبته، حتى ومستواه عالي، ليردد ناقماً ومعاتباً وراء رئيس الرابطة أهزوجة: ياهي في حقي كبيرة (وأنا يا غافل لك الله)!
يمنح الأب لعائلته الصغيرة، صحته ووقته وماله، من أجل تأمين وبناء مستقبلهم، قبل أن يكتشف نشوز الزوجة التي تبدأ تتبلاه في عمره، وتبدأ سلسلة قضايا الأحوال الشخصية، خلع، حضانة، نفقة، أجرة مسكن، أجرة رضاعة، وأجرة باص المدرسة، لينظر معسراً معاتباً: لزوايا بيته، البوم ذكرياته، ولعب أطفاله، الذين هجروه بعدما اختاروا والدتهم حاضنة؛ ياهي في حقي كبيرة (وأنا يا غافل لك الله)!
كل إنسان على وجه هذه البسيطة: لابد أنه قد بذل خلال مراحل عمره الحب والتضحية إما لصديقه أو شقيقه أو زميله أو ابن القبيلة، حتى إذا ما واروه الثرى ووقفوا على قبره استرخصوا فيه الدمعة، وربما بدلوها بضحكة، أو بحديث جانبي مع أحد المعزين عن مصلحة، ولو قدر له وعاد للحياة، ورأهم على ذلك الحال، لصرخ في وجه كل منهم ساخِطاً معاتباً: «بعد هذا العمر كله، أكتشفت أنك تسلى، ياهي في حقي كبيرة (وأنا يا غافل لك الله)»!