(1) سارتر، (د.ت)، الشيطان والرحمن، ترجمة: سامي الجندي، (بيروت: المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع)، 21. (2) م.ن، 23. (3) م.ن، 24- 26. (4) م.ن، 255- 256.
لعلَّ القارئ في غِنًى عن المزيد من المعرفة بالفيلسوف الوجودي (سارتر)؛ وقد سبقَ التعريف بما يعنينا منه في المقالات السابقة، فهو ذلك الوجودي الذي يُعَدُّ بحقٍّ مؤسِّس هذا المذهب، وفيلسوفه الذي انتشر بانتشار كتاباته، وكان رافعَ شعار «الالتزام في الأدب»، في عِدَّة كتب، من أبرزها كتابه «ما الأدب؟»، أمَّا مسرحيَّته «الشيطان والرحمن»، فهي من جهةٍ تمثِّل مذهب (سارتر) الوجودي، ومن جهةٍ تصوِّر الالتزام السياسيَّ والاجتماعيَّ والفكريَّ ومعوِّقاته.
في هذه المسرحيَّة يُظْهِر الكاتبُ شرائحَ اجتماعيَّةً وسياسيَّةً وفكريَّةً مختلفة، تتصارع مَيْدَ البقاء، ومَيْدَ وصولٍ إلى المستقبل الحقيقيِّ الرَّاقي، وكلٌّ يرَى اتجاهه هو الأصوب الأجدَى. لينتهي المؤلِّفُ إلى الدَّعوة إلى (الوجوديَّة)، والاعتماد في تحقيق وجود الإنسان على الإنسان وحده، وما يهمُّنا في هذه المسرحيَّة- وبعيدًا عن عقيدة المؤلِّف- هو ما تمثِّله من التزام الوجودي، وما تعرضه من مشكلاتٍ إنسانيَّةٍ وصراعات، يَحِقُّ للقارئ بعدها أن يُناقش في الطريقة المُثلَى لعِلاجها، وأن يَحْكُمَ على تصوُّر المؤلِّف ومذهبه بصفةٍ عامَّة.
تعرض المسرحيَّةُ صورةً لحياة البؤس والفقر وفقد الولد، تتمثَّل في امرأةٍ بائسةٍ تسأل الكاهن عن سبب موت طفلها الذي مات جوعًا، أو بالأحرى عن سبب جوعه؟ وهنا يعمد المؤلِّف إلى إثارة التساؤل عند قُرَّائه أيضًا: لِـمَ يموت الأطفال جوعًا؟ لا بُدَّ أنَّ ثَمَّةَ سببًا اجتماعيًّا لذلك؟ لكنَّ الكاهن (هنرييك) يفسِّر للمرأة موت طفلها بالقضاء والقدر فقط، قائلًا: - «إنَّ الله يعلم أكثر ممَّا تعلمين، وما يبدو لكِ شَرًّا هو خيرٌ بعَينيه؛ لأنَّه يزن نتائجه جميعًا.»(1)
غير أنَّ وراء موت الطِّفل سببًا بَشريًّا، كان يبحث عنه الكاتب ليفضح حالةً من نتائج السلوك البَشَريِّ، على الملتزِم أن يفضحها ويكشفها للناس قبل أن يقترح حلًّا لها، فجاء السبب على لسان (ناستي)، ذلك الخبَّاز الفقير، الذي يعرف السبب الحقيقي أكثر من غيره، أو قُل: له من الجرأة ما يدفعه إلى التلفُّظ به دون وَجَلٍ أو خوف؛ لأنَّ تلك معاناته وقضيَّته الشخصيَّة مثلما هي قضيَّة ومعاناة تلك المرأة المسكينة، فقال في إجابته إيَّاها:
- «لقد مات لأنَّ التُّجَّار الأغنياء في مدينتنا ثاروا ضِدَّ رئيس الأساقفة، سيِّدهم الشديد الغِنَى، عندما يتحارب الأغنياء، فالفقراء هم الذين يموتون!» (2)
فتعود المرأة للتساؤل:
- أكان هذا الشَّرُّ برضًى من الله؟
ليخبرها (ناستي) بأن «الشَّرَّ لا يولد إلَّا من خُبث البَشَر»، وتظلُّ في سؤالها وهو يجيبها، إلى أنْ ينتهي بها إلى التَّعَزِّي عن موت ولدها؛ حينما أقنعها بأنَّ الجهاد بشجاعةٍ من أجل المستقبل كفيلٌ بإعادة ولدها إليها، وقد صَدَّقته وإنْ لم تفهم ما كان يرمز إليه.(3)
والملحوظ أنَّ هذا الاتِّجاه إلى تفسير الأحداث وتعليل الأشياء ينتظم المسرحيَّة في فصولها الثلاثة ولوحاتها الإحدَى عشرة، وتدور المسرحيَّة حول مدينةٍ فيها الكهنة والفقراء والأغنياء، تقع تحت حصار (كوتز)، الذي يعيش الشَّر بألوانه المختلفة، من خيانةٍ وغدرٍ وظلمٍ وإرهابٍ، حتى إنَّه لَيخون أخاه (كونراد)، الذي كان يحاصر المدينة من قبله؛ فيتظاهر بولائه لرئيس الأساقفة في المدينة، وكراهته لما أقدم عليه أخوه من أطماعٍ، ثُمَّ يقتل أخاه، لا لِيَمنع الحصار، بل ليأخذ ما كان يخطِّط له أخوه، فيفرض حصارًا آخَر على المدينة ويسعى في خرابها، غير أنَّه بعد أنْ جرَّب الشَّرَّ، ووجد أنَّه لا يَجني منه إلَّا حنظل الكراهية، أراد أن يُغيِّر قِناعه؛ فاتَّجه إلى التظاهر بالخير، في مسعًى إلى أن يسيطر، وأن يحكم، وأن يُحقِّق مآربه باسم الخير، وإذا به يفشل كذلك، فلا يصدِّقه أحدٌ، ولا يميل إليه أحدٌ، وتنتهي به المسرحيَّة إلى أنْ يصبح قائدًا لقومه، ولكن بعد أنْ تخلَّص من الشرِّ، ولم يَعُدْ يؤمن بالخير، بل أصبح وجوديًّا، يؤمن بأنَّ حمل الناس على الجادَّة، وإرغامهم على سلوك الطريق الصحيح، لا يتأتيان إلَّا عندما «يخافه جنودُه أكثر من عدوِّهم»، فعند ذلك تُكسَب الحرب: «الآن تبدأ مملكة الإنسان، بدايةً جميلة، هيَّا يا ناستي، سأكون جلَّادًا وجزَّارًا!»(4)
وبهذا تنتهي المسرحيَّة بأن يُصبِح (كوتز) إرهابيًّا، يصوِّر نظرة (سارتر) الوجوديَّة؛ التي ترى تهديم العالم وتحطيم الإنسان سبيلين إلى بنائهما، وهي نظريَّةٌ لم تُؤْتِ ثمارها في أيِّ مرحلةٍ من مراحل التاريخ، وتتناقض مع مبدأ الالتزام النبيل، الذي لا يحارب الشَّرَّ بالشَّرِّ والإرهابَ بالإرهاب، وإنَّما هذه خطة العاجز والفاشل. وللحديث بقايا.