ممتع جدًا عودة الذاكرة إلى أيام زمان ناقلة تسجيل وقائع بالألوان مع أننا حينها لم نكن نعرف التلفاز، ولا آلات التصوير لنوثق بها مناسبات اجتماع الأسرة.. ومن أجمل ذكرياتنا عودتها بنا إلى المدينة المنورة بعد أداء العمرة، وتوقُفنا في (مستورة) للعشاء خاصة، وحملنا زنبيل الأسماك لغداء العائلة.
كانت الجدَّة -رحمها الله- تستقبلنا بالفرح والسرور، وتتناول الزنبيل من أيدينا، وتتفحص ما في داخله من خيرات البحر الأحمر، وتلهج بحمد الله، وشكره على فضله وكرمه.
أذكر ذات مرَّة كانت السماء ملبدة بالغيوم تتبعها زخات مطر خفيفة، مبشرة بغيث قادم.. وكيف أن الوالد -يرحمه االله- رفع واحدة من أواني المطبخ إلى السطح لجمع مياه المطر، وأضاف بأنها نقية وخالية من الشوائب، ويطيب بها طهي الرز بالعدس (المعدوس)، وهو من الوجبات الأساسية تمدُّ جسم الإنسان بالعناصر الغذائية التي يحتاج إليها في فصل الشتاء خاصة، بالإضافة إلى احتوائه نسبة عالية من البروتينات.. ويعد من أشهر الأكلات الحجازية الشعبية التي تقدم على مائدة الطعام في الولائم والعزومات.
رحم الله جدتي، فقد طلبت بالإسراع إلى بيوت الخال عباس والخالة ملكة والخالة خديجة، وعمي محمد سعيد، وستّنا عقادة أم علي لدعوة الجميع إلى غداء سمك وصل هذا الصباح من (مستورة).. وأوصت أن نشتري في طريق العودة طرشي مشكَّل من عند العم سليمان مراد، وبصل أحمر وبصل أخضر وليمون بن زهير، ونعناع مديني ونعناع مغربي وورد من الحلقة.. أعطت تعليماتها، وحملت زنبيل السمك إلى المطبخ، وباشرت تنظيف حبَّات السمك، وتتبيلها بالكمون والفلفل الأسود والكركم والملح، وتحضير كشنة المعدوس، وسلطة الطحينة بالليمون، وسلطة الحمر بالبصل المفروم. في غرفة المعيشة، اجتمعنا وأفراد العائلة حول سفرة تفتح الشهيَّة.. وكان الاجتماع العائلي الثاني بعد غداء عيد الفطر.. وكانت خاتمة الجلسة برّاد الشاي الأخضر بالنعناع المغربي.. واقترحت الجدّة الاحتفال بعودة المعتمرين في بستان أم شجرة.. اتَّصل الخال عباس بالسيد عبيد مدني لاستضافتنا في قصر البستان، فكان له ما طلب، ولنا الاستمتاع في بركة السباحة قرب القصر وقطف الورد، والتقاط حبَّات من الطماطم والخيار والفلفل الرومي لزوم طبق السلطة.
تفرَّغ ابن الخال لتحضير الذبيحة، وإعدادها للشوي.. وانهمكت الوالدة بإعداد متطلبات السفرة، وفي مقدمتها طبق الأرز العربي، إلى جانب المقبِّلات.
كانت أيامنا في بستان أم شجرة من أيام العمر الماضي الجميل.. لكن -بعد توسعة الحرم المدني الشريف- لم يعد للبستان وجود، ودمج كلِّ ما كان داخل سور المدينة المنورة من أحياء وحارات لصالح التوسعة.. وتم تعويض من شملتهم التوسعة بسخاء، مكَّنهم من تشييد عمارات وأسواق تجارية وفنادق لخدمة ضيوف الرحمن، وحولها قصور وفلل وبيوت شيدت فوق المساحات الخضراء، وزاد عدد السيارات والحافلات لتسهل تنقل الأفراد بعد أن كانوا داخل سور المدينة يتنقلون سيرًا على الأقدام، ويؤدون صلواتهم في الحرم بميقاتها.. ومع تمتُّعنا أيضًا برفاهية الحضارة والتقدم، ما تزال نكهة الماضي الجميل عابقة، وصوره بألوان طبيعة حنين ذكرياتنا.