في غضون عقود سبعة، وقع المحال.. كان هذا، وأنا أتابع ما يمرُّ به لبنان! عادت بي الذاكرة إلى أواخر الخمسينيَّات من القرن الماضي حيث صحبنا، أنا وإخوتي الوالدين -حمهما الله- لمتابعة أعمال الوالد هناك بالإشراف على البضائع التي كان قد طلب استيرادها، وتخليصها من ميناء بيروت، ولقضاء إجازة شهر كامل في بلدة فالوغا في قضاء بعبدا من محافظة جبيل.. منتجع يشتهر بعذوبة مياهه وخضرة مرتفعاته وطيب أهله وترابطهم وتآخيهم مسيحيِّين وموحدين بني معروف (الدروز).
أقمنا في بيت يتوسَّط مزرعة أشجار فاكهة متنوعة، وأزهار ورود ورياحين، وجيرة لم نكن نميِّز من إذا كانوا مسيحيِّين أو موحِّدين.. كان الجميع يتمتع بدماثة الأخلاق، واحترام متبادل، ويرحب بالقادمين إليهم.
أذكر بعد تناولنا وجبة الفطور (الترويقة) كل صباح، كان الوالد يغادر إلى محطة الأوتوبيس التي لا تبعد عن سكننا، ليأخذ من هناك الحافلة قاصدًا مكتبًا في المنطقة الحرَّة في الميناء لمتابعة إجراء تخليص البضائع المستوردة لأسواق مكة المكرمة.. وما أن تشاهد جارتنا أمُّ الياس، انطلاق (الأتوبيس) حتى تدخل، ومعها ركوة قهوة من الحجم الكبير، ترافقها شلَّة من الجيران، وبيد كل واحدة منهن طبق به فاكهة وتشكيلة مكسرات محمصة.. وكذلك منهن بالعود والطبلة والرق، لبدء جلسة طرب وموسيقى وانبساط.
في موعد عودة الوالد، كانت الوالدة تطالب بتوجهي إلى الشارع المؤدي إلى المحطة، وفي حال مشاهدة الوالد مترجلًا من الحافلة القادمة من بيروت، أصفق بقوة ليسمعها من في البيت، إشعارًا بانتهاء الحفلة، ومغادرة السيدات من حيث أتين.
يوم المغادرة، اصطحبنا الوالد ومعه جوازات سفرنا، وقسائم ركوبنا الطائرة.. في مكتب وزارة السياحة، دقَّق الموظف المختص بجوازات سفرنا، وطابق الأيام التي أمضيناها في لبنان كما هي في سمة الدخول، وتأكد من أننا نحن حاملي الجوازات أعاد للوالد ما دفعه مقابل تذاكر السفر..، وتمَّ الأمر بسرعة ويسر.. وكان توديعنا كاستقبالنا ببشر وترحيب، ورجاء العودة ليسعد بلقائنا ثانية.
ذاك، كان لبنان في الخمسينيات، وحتى لزمن بعدها، جنَّةٌ على الأرض، تستقطب عشاق السفر، وتجعل لبنان وجهتهم في الإجازات، وزيارات للعمل والدراسة والعلاج.. بيت كرم وعطاء وأمن لقادم زائر ولساكن دائم.. فلكَ الله يا لبنان.