يعتني الجاحظ في جملة معايير «التلقي»، ما يمكن تسميته بـ»تحقق التأثر والاستجابة» عناية خاصة، وهذا ما يتضح من قوله: «فإن أردت أن تتكلف هذه الصناعة فقرضت قصيدة، أو حبّرت خطبة، أو ألفت رسالة اعرضه على العلماء فإن رأيت الأسماع تصغي له والعيون تحدج إليه، ورأيت من يطلبه ويستحسنه فانتحله، وإن عاودت أمثال ذلك مرارًا، فوجدت الأسماع عنه منصرفة والقلوب لاهية، فخض في غير هذه الصناعة، واجعل رائدك الذي لا يكذبك حرصُ المتلقين عليه، أو زهدُهم فيه».
وفي سياق آخر نراه يقول: «وينبغي لمن كتب كتابًا ألاَّ يكتبه إلاَّ على أَن الناس كلهم له أعداء، وكلهم عالِمٌ بالأمور، وكلهم متفرِغ له، ثم لا يرضى بذلك حتى يدع كتابَه غُفْلاً، ولا يرضى بالرأي الفطير؛ فإن لابتداء الكتاب فتنة وعُجبًا، فإذا سكنت الطبيعة وهدأت الحركة، وتراجعت الأخلاط، وعادت النفسُ وافرةً، أعاد النظر فيه، فَيَتَوَقَّفُ عند فصوله توقّف من يكون وزن طمعه في السلامة أنقص من وزَن خوفه من العيب، ويتفهم معنى قول الشاعر:
إِنَّ الْحَدِيثَ تَغُرُّ القَوْمَ خلْوَتُهُ
حَتَّى يَلِجَّ بِهِمْ عِيٌّ وَإِكْثَارُ
ويقف الجاحظ عند قولهم في المثل: «كلُّ مُجْرٍ في الخَلاءِ يُسَرُّ».
وهو بهذا يوجه حديثه إلى من يرغب في أن يصبح شاعرًا، أو خطيبًا، أو مترسّلاً، لذلك يجب على من ينوي احترافها الوعي بثقل وزنها؛ لأن الاستجابة يترتب عليها الرضى والارتياح لأن العمل الأدبي يستجيب لأفق توقع القارئ، وينسجم مع معاييره الجمالية.. في حين يترتب على التغييب الاصطدام؛ لأن العمل الأدبي قد خيب أفق توقع القارئ فيخرج من المألوف إلى الجديد.
وأخيرًا يأتي ما يمكن اعتباره معيارًا خاصًّا بصاحب النص، وعليه؛ يقول الجاحظ: «وكان زهير بن أبي سلمى، وهو أحد الثلاثة المتقدمين، يسمي كبار قصائده الحوليات، وقال نوح بن جرير: قال الحطيئة: «خير الشعر الحولي المنقح»، قال: وقال البعيث الشاعر، وكان أخطب الناس: «إني والله ما أرسل الكلام قطيبًا خشيباً، وما أريد أن أخطب يوم الحفل إلا بالبائت المحكّك».
واللافت في نص الجاحظ «الحوليات»، «الشعر الحولي»، «الكلام البائت المحكّك»؛ بوصفها الكلمات تشي إلى الاعتناء بـ»النص» من طرف صاحبه، تنقيحًا وإضافة وتجويدًا، قبل إدخالها إلى عالم التلقي.
وتأكيدًا على ذلك نراه يقول: «ومن شعراء العرب من كان يدع القصيدة عنده حوْلاً كريتاً، وزمناً طويلاً، يردّد فيها نظره، ويقلّب فيها رأيه فيجعل عقله ذماماً على رأيه، ورأيه عياراً على شعره.. وكانوا يسمّون تلك القصائد «الحوليّات» و»المقلّدات».
فكأن الجاحظ يجعل أوّل متلقّ للنصّ الأدبي هو مُنشِئُه، حيث يقوم بتلقّي النَّصّ قراءةً ونقداً، وذلك بالحكمِ عليه عن طريق قياسه وفق معايير الجودة المتّفق عليها، كلّ ذلك قبل أن يُلقي به إلى الجمهور العام أو الخاصّ، ليتلقّاه بدوره ويصدر أحكامه الجمالية على مضمونه وشكله.. وهو ما يرسّخ فكرة الاهتمام بالمتلقّي.