سَلَامٌ مِـنْ صَــبَا بَــرَدى أَرَقُّ
وَدَمْـعٌ لَا يُكَفْـكَفُ يَا دِمَـشـقُ
وَمَعْـذِرَةُ اليَــرَاعَةِ وَالقَــوَافِي
جَلَالُ الرُزْءِ عَنْ وَصْفٍ يَدِقُّ
وَذِكْرى عَـنْ خَوَاطِرِها لِقَلْبي
إِلَيْـــكِ تَلَفُّــتٌ أَبَــدًا وَخَــفْـــقُ
قالها أمير الشعراء أحمد شوقي -رحمه الله- بعد العدوان الفرنسي على دمشق زمن الانتداب الفرنسي على سورية وتدميره الكثير من أحيائها بالطيران.. واليوم، تعود ذكراها إلى كلِّ من رست بهم مراكب في ديار غربة، ليستعيدوا وقفات لهم في سفح جبل قاسيون وأُمُّهم دمشق؛ (شام شريف) كما أطلق عليها العثمانيُّون زمن السلطنة.. فهي -بدون منافس- لها (عاصمة عواصم العالم) وأقدمها، وما تزال منذ القدم حتَّى اليوم. في قلب المسجد الأموي الكبير وسوق الحميديِّة و(إيمع بكداش) بالفستق والمحلاسة معممة بالمكسَّرات، ينقلني الفكر والخيال المتأمِّل منه إلى سفح جبل قاسيون، ولأجوب بباب الجابية، وأتذوَّق قطايف رمضان بالقشدة وبالجوز، والعصافير بالقشدة البلديَّة.. وتستحثُّ بي الخطا إلى حارة القنوات لألقي النظر على شرفات منزل المجاهد فخري بيك البارودي، عاشق كلِّ ما هو جميل تراثي، ثمَّ يتواصل السير إلى مطعم (دار الصديق) لتذوُّق أطيب طبق شاورما مع الكبَّة المقليَّة، أشفعها بحبَّات من القطايف العصافيري وكاسة شاي بالنعناع. وبعد استراحة وهضم الطعام، يتواصل السير باتِّجاه (محطَّة الحجاز) التي كان ينطلق منها القطار إلى المدينة المنورَّة.. ومدَّت قضبانها الحديديَّة تلبية لرغبة السلطان عبدالحميد الثاني.. وقد جُمعت تكلفتها من تبرُّعات المسلمين لربط مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام مرورًا بدمشق، ومنها بإسطنبول عاصمة السلطنة، فأوروبَّا، الأمر الذي أقلق بريطانيا يوم كانت إمبراطوريَّة لا تغيب عنها الشمس.. فأوعزت إلى لورانس؛ ضابط استخباراتها لينسف (الخط الحديدي) وهو في أولى سنوات تشغيله قاطعًا بذلك سبل اتِّصال عرب الجزيرة بأشقَّائهم عرب الشمال.
ومن (محطَّة الحجاز)، يتتابع السير والخيال باتِّجاه حيِّ الصالحيَّة، فمسجد الشيخ محي الدين بن عربي الذي أمَّ دمشق من مدينته مورسيا في الأندلس.
وحلَّ فيها أهالي المدينة المنوَّرة ممن أجبرهم النقص في التموين من قبل واليها العثماني فخري باشا على الرحيل منها، ومنهم الجدُّ محمَّد مصطفى كردي المدني بسبب الحصار الذي ضربه عليه الأشراف الذين كما خطَّط له ضابط الاستخبارات البريطاني لورنس إعلانًا عن قيام الثورة العربيَّة بقيادة الشريف حسين، أمير الحجاز.. وكان قد وعده بعرش العرب من دمشق.
يتتابع الخيال ملموسًا ومحسوسًا إلى نهاية (خطِّ المهاجرين)، فقصر حسين ناظم باشا الذي اتَّخذه بعده رؤساء الجمهوريَّة السوريَّة (مُنتخبين ومفروضين) مقرًّا رسميًّا لهم.. ومن هناك، يستجلي النظر أمتع منظر.. الشام، وقد أحاطت بها الغوطة، وتفرَّع نهرها بردى سبعة جداول، تسقي البساتين والمزارع.. من سفح قاسيون إلى جنوب شرق دمشق.. ومن السفح إلى وسط العاصمة، متنقَّلًا بين حاراتها التي يفوح من بوَّابات بيوتها عبير الفل والياسمين والورد الجوري.. وخلف بوابات منازلها (قطع من جنة الله على الأرض) فيها الكثير من الشجر المثمر وأحواض الزرع تتوسَّطها نافورة تنطلق من بحرة ثمانيَّة الأطراف، وحولها العديد من الصوالين وغرف الاستقبال ومهاجع النوم، ويقوده تجوال الحارات إلى محيط المسجد الأميري والأسواق التقليديَّة لصناعات اليدويَّة.. ويتوقّف عند قهوة النافورة لاحتساء كاس شاي خمير، ويستمع إلى الحكواتي وهو يقرأ على مستمعيه من مجلَّد روايات عنترة وعبلة وأبو زيد الهلالي.. ويتابع السير إلى مأذنة الشحم، ويدخل البيت الدمشقي (الخوالي) وقد تحوَّل إلى مطعم يقدِّم الوجبات الدمشقيَّة الأصيلة.
ومن حيِّ الميدان إلى سفح جبل قاسيون، و(طلعة شورى) لقراءة الفاتحة على روح الجد محمد مصطفى كردي الذي وافتة المنيَّة وكان يستعد للعودة إلى مدينته المنورة مع قافلة جمال.. ومن (طلعة شورى) إلى قمَّة قاسيون، فـ(مزار الأربعين) لصلاة ركعتين مع (شيخ الأربعين) رافعي أكفَّ الضراعة والشفاعة للمولى؛ ليحمي دمشق من غدر الغادرين وعدوان الدخلاء والمفسدين.