قبل قرابة عشر سنوات، وتحديدًا بتاريخ (١٦/٩/١٤٣٤هـ)، كتبتُ في هذه الصحيفة مقالًا بعنوان: (الجامعة العربية والتوهُّم البريطاني)، أوضحتُ فيه بعضَ أدوار وزير الخارجية البريطاني (أنتوني إيدن)، العقل المُحرِّض على قيام جامعة الدول العربية عبر خطابه الشهير، وحبكةَ قيام جامعة الدول العربية، وحيثياتِها ومصالحَ بريطانيا من قيامها، والأدوارَ البريطانية الخفية وراء قيام جامعة الدول العربية. ففي (٢٩/٥/١٩٤١م) ألقى (أنتوني إيدن) خطابًا رأى فيه أن كثيرًا من مُفكِّري العرب يرجون وحدة أكبر مما هي عليه الآن، هذا الخطاب شكَّل إغراءً كبيرًا لقيام ما سُمِّي بـ(جامعة الدول العربية) ومهَّد لظهورها، والعجيب في الأمر أن موقع الجامعة العربية على الشبكة يعترف بما كانت تضمره بريطانيا من وراء هذه الدعوة -عبر خطاب إيدن- حيث جاء في الموقع: «وجدت بريطانيا في الأربعينيات من القرن العشرين أن وجود أحد الأشكال المؤسسية التي تنتظم فيها الدول العربية المستقلة في حينه (يخدم مصالحها) من عدة وجوه أساسية». واليوم تكون قد مضت أكثر من سبعة عقود على قيام جامعة الدول العربية، ولم تجد الشعوب العربية موقفًا حاسمًا للجامعة العربية تجاه القضايا العربية الداخلية، أو تجاه المحتل الصهيوني، أو التدخلات الإيرانية السافرة في بعض الدول العربية من خلال أحزابها وتنظيماتها في تلك الدول، التي ما كان لهذه الأحزاب والتنظيمات (التي تحوَّلت إلى إرهابية) أن تجد لها قبولاً لولا (الفراغ السياسي والأمني) الذي تعيشه تلك الدول العربية. منذ مطلع تسعينيات القرن المنصرم والدول العربية في حالة تشرذم وشتات؛ بعد أن تطايرت الأطباق في أول اجتماع عربي لمناقشة الغزو العراقي للكويت، وتَبِعَها تطاير الآراء وتفرُّق الكلمة حتى يومنا هذا.
قد يظن البعض أنها دعوة لقطع العلاقات (المهترئة أصلًا) بين أغلب الدول العربية، أو دعوة لتحجيم الرابط اللغوي، وليس هذا هو المقصود إطلاقًا؛ المقصود أن الوحدة العربية الحقيقية (المأمولة) لم تتحقق بين الدول العربية منذ قيام الجامعة، ما تمَّ فقط هو زيادة الالتزامات والأعباء المالية (خاصة على دول الخليج)، وتورُّم الملفات العالقة، وظهور الانعكاسات السلبية لهذه الوحدة المزعومة، كالاتكالية بين الدول الأعضاء، والتخاذل والمكيدة والتحيُّز، بل وصل الأمر لدرجة الوشاية، حتى إن بعض الدول العربية انحازت لبعض القوى الإقليمية، ولم يبقَ لها في الجامعة إلا مقعدها، وبعضها أصبحت صوتًا لتلك القوى داخل الجامعة تُنافح عن سياساتها وتدخلاتها.
المؤكد أن بعض الدول العربية لها علاقات قوية ومتينة مع دول العالم، وخاصة الكبرى، دون أن تكون هناك روابط لغوية تجمعها، من هذا ندرك جيدًا أن العلاقات بين الدول العربية يمكن أن تكون متينة وصادقة دون الحاجة لجامعة عربية، في الوقت نفسه قد تكون أوهى من بيت العنكبوت مع وجود الجامعة العربية.
ولذا فإن التفات كل دولة عربية لشأنها الداخلي دون التقيد بالإطار العربي في كل قضية، مع قيامها بحق الجوار واللغة؛ أراه أجدى وأكثر تأثيرًا في حلحلة كثير من القضايا، والدليل أن فردانية كثير من الدول لم تنحِّها عن مسرح الأحداث، بل نجد لهذه الدول أدوارًا رئيسة في أكثر من اتجاه.
وعليه أرى أن (فضَّ) الجامعة العربية أدعى لاستقلالية كل دولة عربية في الرأي، وأدعى لقيام كل دولة بواجبها، وأدعى لبروز قوى عربية يمكن أن تُشكِّل توازنًا في المنطقة، وهذا ما لا يمكن تحقيقه في ظل الجامعة العربية التي أضحت مناخًا للخلافات والتحزبات والتشرذم، وتحجيم الطموحات ووأد المشروعات.