يعتبر الوقف من منظومات التكافل الاجتماعي في الإسلام، فهو اصطلاحاً يعتبر نوعاً خاصاً من التصدق والتبرع على سبيل الخير والإحسان، بحيث ينتفع به آخرون على مدى سنين، وأجيال، وقرون.. وهو يكون لأشياء يُستفاد من نفعها وغلتها مع استمرار بقاء عين الوقف. وقد عرَّفه ابن قدامه: «بأنه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة»، وهذا التعريف مأخوذ من قول الرسول الكريم لعمر بن الخطاب حين استشاره في أرض له، فقال له: «احبِسْ أصلَها وسبِّلْ ثمرتَها».
وقد أولت الدولة السعودية اهتماماً كبيراً بالأوقاف، على اعتبار أنها من المقومات الاقتصادية؛ فأنشأت الهيئة العامة للأوقاف، وصدر نظام الهيئة بالمرسوم الملكي رقم م/ ١١ بتاريخ ٢٦/٢/١٤٣٧هـ، وأصبحت ذات شخصية اعتبارية مستقلة، وتشرف على جميع الأوقاف العامة والخاصة والمشتركة، وتتمتع بالاستقلال المالي والإداري، وترتبط برئيس مجلس الوزراء.
كما وضعت لها مهام واختصاصات من خلال اللائحة المنظمة للعمل، ومنها كما ورد في المادة الخامسة رقم (5): «الإشراف الرقابي على أعمال النظار؛ والاطلاع على التقارير المحاسبية السنوية، وتقديم الدعم الفني والمعلوماتي للنظار، وتقديم المشورة المالية والإدارية بما لا يخالف شرط الواقف، وتحريك الدعوى أمام القضاء لعزل الناظر الذي يخفق في تحقيق أهداف الوقف، أو يفقد شرطاً من شروط النظارة..»، وحتماً هذه المهام تطبق باحترافية على الأوقاف العامة للدولة، ولكن أرى أنها غير مطبَّقة على (الأوقاف الخاصة)، حيث لا توجد تقارير سنوية محاسبية من كثير من النظار، ولا توجد احترافية مهنية في إدارة الاستثمارات والعقارات؛ فهناك خسائر كبرى، ولا يصل للمستحقين سوى فتات من الدخل!! ناهيك عن التلاعب في البيع والشراء من قِبَل البعض ومصالح خاصة، في حين أن دورهم الأساسي هو حماية أصل الوقف من النضوب؛ بوجود بعض المخاطر التي لابد من مهارات إدارية واستثمارية لمواجهة تلك المخاطر، وتحقيق تدفقات نقدية مستمرة لاستمرار العجلة الاقتصادية العامة.
كما أن اختيار الناظر مهم جداً، ولكن للأسف؛ كثيراً ما تقع المحاباة من العائلة على أحد أفراد العائلة، وهو غير كفء للنظارة؛ مع أن وصية الواقف أن يكون (الأرشد)، ومعنى الرشد ليس معنى البلوغ فقط، وإنما الحكمة، وبُعد النظر، فضلاً على أدب جم وخلق إسلامي رفيع يتواءم مع عظم الأمانة، كما قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا). فلماذا لا تكون هناك معايير لاختيار الناظر من قبل القاضي، وأنه لابد من حصوله على شهادة جامعية، ويفضل أن تكون في القانون أو الشريعة، وحصوله على دورات في الاستثمارات والتسويق. بل لابد أن يُجرى له اختبار تحريري، ومقابلة شخصية لاكتشاف مدى حكمته وأخلاقه.
بل أرى أن تقوم الهيئة العامة للأوقاف بدراسة فقهية لأنظمة الوقف القديمة، ومنها على سبيل المثال: شرط الواقف إيقاف جزء من الغلة على فقراء طائفة معينة من الحجاج.. والآن الحج بالحجز الإلكتروني والدفع المسبق للباقات، والمفروض أن تُحوَّل المستحقات لأرامل وأيتام وفقراء العائلة.. فهم أولى من غيرهم. كما أن نظام الوقف لأبناء الظهور دون أبناء البطون لم يعد له معنى في عصرنا الحاضر، فحتى الطوافة تطوَّرت أنظمتها، وأصبح التوريث للجميع.
ما نتمناه هو أن تكون هناك دراسات فقهية حول تلك الموضوعات، واجتهاد في تحديث الأمور الوقفية.. وإن كانت العقارات من أفضل أنواع الاستثمارات في الأوقاف، وتمتاز بمستوى مخاطر أقل نسبياً عن الأسهم والسندات، إلا أنها تحتاج أيضاً إلى مهارات في التحليل الاقتصادي والديموغرافي، والتحليل الفني والخدمي للعقار. ثم إدارة العقار من حيث التجهيز والتسويق، وحسن اختيار المستأجرين، ثم التأجير وما يتبعه من ترميم وصيانة وغيره.
إذن تطبيق الحوكمة في قطاع (الأوقاف الخاصة)، وإنشاء مجلس للنظارة من العائلة ضرورة ملحة، وهي موجودة في الدليل الإرشادي لاستثمار الأوقاف؛ ولكنه غير مُطبَّق.! وتحتاج الأوقاف الخاصة إلى تنظيمات وإشراف دقيق، منها: تعيين محاسب قانوني تُحدّد فيها الإيرادات والمصروفات والخسائر، أو الربح لكل استثمار، مع تحليل أداء الاستثمارات واكتشاف مكامن الخلل.
فهل تعمل الهيئة العامة للأوقاف غربلة على النظار، وإعادة تعيين للكفاءات الوطنية؛ بما يساهم في تحسين دخل الأوقاف، والذي يسهم في نمو الناتج المحلي؟!.