Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. عادل خميس الزهراني

الذاكرة والسرد.. الأمومة والعقوق

A A
يمكن القول: إن سؤال الذاكرة يمثّل أحد الأسئلة المركزية في السرد.. ذلك لأن السرد يعتمد على الذاكرة اعتماداً كبيراً، في عملية استعادة المحكيات، وبنائها من جديد.. وحين ننظر للعمل السردي بوصفه عملاً أدبياً تخييلياً، تصبح الذاكرة أداة بنيوية مهمة في السرد؛ فتسهم في بناء الأحداث، وتحديد وظائف الشخصيات، وتتحكم في تطور السرد، كما تسهم كذلك في تبئير الحكي.. وتتجه بعض الروايات إلى معالجة موضوع الذاكرة، وتحويلها لبعد موضوعي يتجه نحوه السرد؛ يحاوره ويسائله، ويوظفه عنصراً بنائياً داخلياً.. ورواية (الاعترافات) لربيع جابر مثال جيد في هذا السياق.

تنطلق رواية (الاعترافات) من السؤال الرئيس: كيف تعمل الذاكرة؟ إن الذاكرة كما يؤكد الناقد لؤي عباس «تواصل فاعليتها وهي تؤسس انتباهات الخطاب الروائي بناء على قوانينها، وهي تعمل على نحو ضدي... إنها الذاكرة التي تخلخل حتى ما نظنه عن أنفسنا».. ورواية (الاعترافات) تقوم على ذاكرة بطلها الرئيس وساردها، مارون، الذي يحاول -عبثاً- استعادة ذكرياته في بيت أهله، أيام حرب السنتين.. لكن هذه الذاكرة ليست موثوقة، بل تظهر مشوّشة، مليئة بالثقوب والجروح، وتعمها الفوضى.. يقول مارون: «قلت لك إن ذكرياتي الأولى كلها مضطربة متشابكة... لكن إلى أي حد أقدر أن أتذكر الأشياء بدقة؟ هذا صعب، لن تعرف كم أجده صعباً.. أذكر نفسي ولا أذكر.. كأنني أتذكر حياة عاشها غيري».

وهذا هو الفخ السردي الذي تنصبه الرواية لقارئها، إذ يظل القارئ في حالة من الضبابية، وهو يقرأ بين مصدّقٍ ومكذّب، لا يدرك مدى دقة ما يقرأ، أو إمكانية ما يحدث من فظائعَ لا يستوعبها الإدراك البشري.. الأسطر الثلاثة الماضية (قلت لك إن ذكرياتي الأولى كلها مضطربة متشابكة...) تأتي ضمن مقطع من ثمانية سطور، يبدأ هكذا: «أبي لم يقاتل كثيراً لكنه خطف وقتل عدداً لا أعرفه من البشر، كانت هناك أيام يختفي فيها دفعة واحدة مئة شخص أو مئتان أو 300، هنا، في بيروت».

يتابع القارئ قصة هذا الصغير الذي يحكي قصته بنفَس روتيني، وشيء من العادية، يخلط فيها بين المعقول واللامعقول؛ حيث تجاورُ عبارةٌ من مثل (أبي كان يخطف الناس ويقتلهم) عبارة أخرى تقول: (هذا أخي الكبير، أخي الصغير لم أعرفه، أعرف صورته...)، يتنقّل القارئ مع السرد بين أفراد العائلة، ليتتبع الحلقة السردية، حتى يقع في شرك المفارقة الغريبة لاحقاً، حيث يظل لغز الأخ الصغير مفتوحاً، لا تغلقه غير صدمة الكشف، حين يعلن السارد (مارون) عن هويته، وعن ظروف انضمامه للعائلة، وعن مآل أخيه الأصغر الذي لم يقابله، ولم يره إلا في الصور.

وهكذا تتولد من سؤال (كيف تعمل الذاكرة؟) أسئلة أخرى تطرقها الرواية باستمرار، وبطرق مختلفة؛ من ذلك مثلاً سؤال الكيفية الذي ظل يلح على الراوي: كيف تستعيد الذاكرة ما تريد؟ الذاكرة -كما تظهر في السرد- مثقوبة وجريحة، وتحاول -بشكل أو بآخر- مقاومة استعادة الذكريات الأليمة، والأحداث البشعة التي حدثت، وكان (مارون) شاهداً في قلبها، بل ضحية من ضحاياها.

والذاكرة في هذا المقام تصوّر حالة الصدمة النفسية الفردية (trauma) للبطل الصغير (مارون)، والصدمة الجماعية لأجيال من اللبنانيين الذين عاصروا هذا الألم، وهم يرون وطنهم، وآباءهم وإخوتهم يتحولون إلى وحوش حرب تنعدم فيها كل معاني الإنسانية: «ما تتذكره يقهرك، يضربك بالأرض مرات، يدوس عليك.. يذهب ويختفي ولا يهتم بك.. يتركك على الأرض وأنت لا تفهم ماذا تذكرت».. يدرك الراوي هذا البعد جيداً، أعني طبيعة هذه الذكريات المستعادة، بل إنه ينبّه قارئه: «انتظر لحظة.. لا تظن أنني سأخبرك قصصاً سمعت مثلها... ما سأحكيه لك لا يشبه شيئاً عرفتَه أو سمعتَه..».

وهو يعي كذلك تأثير هذه الأحداث على التاريخ والأجيال، ودورها في تسميم الذاكرة الجمعية، وتشويه الواقع.. في نهاية الرواية، يعترف (مارون): «لم أتزوج لكنني أشعر بالراحة».. وبعد ذلك مباشرة يعود ليحكي عن ندوة حضرها في الجامعة قبل تخرجه؛ نظم الندوة جمعيات للمخطوفين والمفقودين، ووزعت قوائم بأسماء الذين فقدوا في الحرب الأهلية، ولم توجد لهم جثث أبداً، ولا يعرف أحد عن مصيرهم شيئاً.. عبثية الموقف، يصورها موقف مارون، وهو يقرأ الأسماء، ويتساءل إن كان اسمه الحقيقي بينهم، لكنه لا يعرف.. ولن يعرف.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store