ما أصدق ما قال أمير الشعراء أحمد شوقي في حقيقة تاريخنا:
لَولا دمشقُ لما كانت طُليطلةٌ
ولا زَهتْ ببنَي العبَّاسِ بغدانُ
فدمشق هي من احتضن صحابة رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام لمَّا خرجوا من المدينة المنورة إلى بلاد الشام والعراق لنشر الإسلام والقضاء على تسلط الروم والفرس وتحكمهم في بلاد الشام والرافدين مطيحين بعرش هرقل الروم وديوان كسرى في فارس، ومعيدين للعرب استقلالهم وكرامتهم، وفاتحين بقيادة أبو عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد مدينة دمشق في الخامس من سبتمبر عام 635 ميلادية، كافلين للدمشقيين كافة الأمن والأمان وحرية المعتقد وسلامة دور عبادتهم، وممارسة شعائرهم.
من دمشق، خرج جند الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان بقيادة الحجَّاج بن يوسف الثقفي قاضين على تمرد الخوارج ومعيدين للخليفة الأموي في دمشق سلطته في بلاد الشام والرافدين وخراسان، وما بعدها شرقًا، حتى بلاد شمال أفريقيا غربًا.. وحيث أن دوام الحال من المحال، ولكل زمان دولة ورجال، ما عتم أن استولى بنو العباس على الحكم بمساعدة البرامكة المجوس الذين يعودون بأصلهم إلى مدينة بلخ في بلاد فارس، وينتسبون إلى جدهم الأكبر برمك، الذي كان سادنًا في معبد النوبهار؛ أحد أشهر المعابد في مدينة بلخ، وقد دخلوا الإسلام.
بعد انهيار الدولة الأمويَّة في بلاد الشام، وتعقب العباسيين الأمويين بالتصفيات الجسدية، تمكن حفيد الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، أبو المطرف عبدالرحمن بن معاوية بن هشام بن عبدالملك الأموي القرشي (731 - 778) المعروف بلقب (صقر قريش)، وعبدالرحمن الداخل.. أما في المصادر الأجنبية فبلقب (عبدالرحمن الأول).. تمكن من النجاة بروحه بهروبه من بلاد الشام إلى شمال أفريقيا، ومنها إلى الأندلس.. هناك حل في ميناء المنقب (المونييكار)، ومنها انتقل إلى قرطبة مؤسسًّا الخلافة الأمويَّة في الأندلس.
في عهده ومن خلفوه في الحكم، أضحت قرطبة وغرناطة وطليطلة وسواها من مدن الأندلس قبلة العلماء وطلاب العلم وراغبي التفقه في علوم اللغة العربية وآدابها وفنونها، وعلوم العصر من طب وهندسة وتاريخ وجغرافية وغيرها من علوم لم تكن معروفة في البلدان الأوروبية المجاورة.. وهكذا كانت دمشق تتجول بين دول المشرق والمغرب عارضة ما لديها من علوم ومعرفة، وأهمها الطب والصيدلة والفلك، ما تزال تدرَّس في جامعات العالم.
تلكم دمشق، أقدم عاصمة في تاريخ البشر مأهولة منذ تأسيسها حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولا.. دمشق التي انطلق منها نور الإسلام إلى بلاد الشام، فمصر فآسيا، ثم عمَّ العالم.. وفي دمشق التي غزاها هولاكو للقضاء على شأفة الإسلام، انبرى علماء دمشق لأبنائه وحفدته ليحيلوهم من أكبر حماة الإسلام وناشريه.. وتتعدَّد مآثر دمشق حتى ليصبح من المحال حصرها.. هذه هي المدينة التي تكحَّلت عيناي بنورها يوم مولدي.. ومن قبل، استضافت بمحبة وكرم أهلي من المدينة المنورة.