كأي عمل نقدي، لم يسلم النقد الروائي من الوقوع في جملة من المزالق، أدت به إلى معوقات؛ فثمة مشروعات نقدية انقطعت بالكلية عن التراث النقدي القديم بكل ما فيه من منجزات، واستهدفت المنجز الروائي بمنهج نقدي أنتجته بيئة محددة وفقًا لشروطها.
كما أنَّ بعض المشروعات النقدية وقعت أسيرة للطوفان الأيديولوجي، فطفقت تحاكم النص ليس على قاعدة الشرط الإبداعي؛ وإنَّما بإسقاط المواقف الذاتية للناقد على النص أو الكاتب أو هما معًا؛ لتظهر أعراض التحيز غير الموضوعي حين الموافقة الأيديولوجية، أو الاستهداف الشخصي عند المفارقة، أو ظهور تلك الممارسات النقدية التي تتجه إلى المضامين، وتحاكم الخطاب الروائي كما لو كان مشروعًا مرتبطًا بمبدعه ارتباط قيمٍ ومعتقدات، فتظهر في سياقه من الكتابة النقدية نوازع التفتيش عن النوايا، واستدعاء ماضي الكاتب وحاضره، في مجانبة مكشوفة لماهية وغرض النقد.
ومع ذلك وغيره الكثير، هناك ممارسات نقدية استطاعت أن تقدم في منجزها إضافات نافعة، وإضاءات مبرقة، لا شك أنَّها أسهمت كثيرًا في فتح منافذ الضوء أمام عالم الرواية، سواء على مستوى كُتَّابها أو قارئيها؛ ليبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: هل تؤثر هذه المناهج النقدية في صناعة الرواية، أو في طرق تلقيها؟
قبل الإجابة عن مثل هذا السؤال، ينبغي الإشارة أولاً إلى أنَّ المناهج النقدية ليست (أكلشيهات) يعدها النقاد ليطبقها الروائيون في أعمالهم، فالشاهد أنَّ عملية إنتاج الرواية تمضي في نسقها على النحو الذي يتأسس في مخيلة وفكر منتجها، قد يصحب ذاكرة النقد وشروطه أثناء الكتابة، وقد تغيب عنه، وما عليه من بأس إن غيَّب هذه الشروط عن ذاكرته، وترك لنفسه حرية التعبير كما يريد، فليس ثمة قالب محدد يجب عليه أن يتبعه لينتج روايته. أمَّا النقد فعليه لزامًا أن ينظر فيما هو متاح من كتابة، ويسطِّر رؤيته وفق منظوره، ليكون المتلقي في الطرف الآخر من عملية الإبداع المزدوج (النص ونقده)، أمام خيارات جمالية وفنية متعددة، ولن يملي أيُّ أحد منهما توجهه على الآخر.
صفوة القول في هذا السياق أنَّ حركة الرواية في إبداعها غير معنية -أو يجب أن تكون غير معنية- بالمناهج النقدية حين تنزلها الإبداعي، فمن المضحك حقًّا أن يرسم الروائي خطوط روايته وفق رؤية المنهج النقدي؛ ليقدم لنا رواية سليمة من العاهات والمزالق، مستوفية شروط الناقد؛ لتخرج سالمة من سياطهم أو تبريكاتهم أو هما معًا، كما أنَّ المتلقي إنَّما يتقبل الرواية بشروطه الجمالية الراسخة في وعيه، وليس بشروط الناقد على علميتها ومنهجيتها، وإنَّما تتكامل الرؤية، بصورة تماس الكمال ولا تبلغه، حين يكون مبدع الرواية هاضمًا لمناهج النقد على نحو ينساب سلسًا في مشروعه الكتابي بغير حذر يقص أجنحة تحليقه، أو تقعيد يقزم رؤيته، ويكون المنهج النقدي حاضرًا ومستبصرًا برؤية الناقدة البلغارية (جوليا كريستيفا) حين تشير إلى أنَّه «لا يجمع النص شتات واقع أو يوهم به دائمًا، وإنَّما يبني المسرح المتنقل لحركته التي يساهم هو فيها ولا يكون محمولًا وصفة لها». ثمَّ يأتي دور المتلقي الذي يدخل إلى طقس الرواية متسلِّحًا بالمعرفة، مستصحبًا ذاكرة النقد على نحو لا يشوش عليه رؤيته فيفقده الاستمتاع، ولا خاليًا من المعرفة بحيث تمر عليه سقطات الروائي.