- لا أعلم من أين جاء مُصطلح «إيجابية»!.. لكن ما أعلمه، أنّه قد أخذ أكبرَ من حجمِه، وفي الغالب يتبنّاه أُناسٌ لا علاقة لهم بالواقعيّة والعملِ الجادّ المُثمر، بل بالمثاليةِ الزائدةِ، والسّذاجةِ، والآمالِ الزّائفة، والألفاظِ الفاخرةِ المُزخرَفة!.
- الإفراطُ في الإيجابيةِ، إغراقٌ في الأوهامِ والخيال، ومُزايدة ساذجةٌ على الواقع، وسطحيةٌ سخيفة، في مواجهةِ قضايا مَصيريةٍ كالوجودِ والفناءِ والمَرض والمعاناةِ والموتِ، وحقيقة أنّ الإنسانَ خُلِقَ في «كَبَد»، وحياته تحوي في طيّاتها الشّقاء أكثرَ من السّعادة.
- وفرطُ «التفكير بصورة إيجابية».. هو في واقعه خداعٌ للذّات، لتجنّب البحثِ عن مَخارج لمآزقَ كبيرة، وحلولٍ لمُشكلاتٍ عويصةٍ قائمةٍ ومؤثّرة بصورةٍ سلبيةٍ فظيعة، وهو تفاؤلٌ كاذب، يتسبّبُ في تخديرِ المَشاعر، وتكريسِ الأملِ الزائفِ بانتظار المُخلّصِ من البؤسِ والتّعاسة.
- من الـمهمّ عدمُ الـخلْط بيـن التفاؤلِ والسّذاجة، فالتفاؤلُ أمرٌ مـحمودٌ ما دامتْ هناك بوادر تُـعطي الأملَ الصّادق في الـتغييـر إلـى الأفضل (اعقِلها وتوكّل).. أما السّذاجة فمِن صُورها تكرارُ الأخطاءِ وتـجاهلُ الـواقعِ السيّئ والأحداثِ السّلبية، ثم انتظارُ نتائجَ «إيـجابية»!.
- بعضُهم، وبمنتهى السّذاجة، يُشجّعونك على الخروجِ من «منطقةِ الرّاحة».. ويُحفّزونك على «تنميةِ الذات» وتكريسِ نهمِ الاستكشاف.. دون النّظر إلى مُشكلاتِك ومعاناتِك أو ثقافتك، أو إمكاناتِك ومدى استعدادِك، ودون الاهتمامِ بواقِعك وطمأنينتك.. بل يدعونَك، بمُنتهى البَلاهة، للإيجابية!.
- هوسُ «الإيجابية» ينتشرُ في عالمٍ موازي، يُردّد فيه بعضهم كلماتِ متصدّري الطاقة وتنميةِ الذات، وتغريداتِ الصّباح المُشرقِ والجميلة السمراء (القهوة)، بين أحضانِ الشواطئِ الزرقاء والمروجِ الخضراء!! ووصلَ بعضُهم إلى حدّ رفض انتقادِ الواقعِ وتشخيصِ مكامِن الخلل، وتجنّب نقدِ «السّلبيات» بحجّة منعِها من الانتشار!.
- عموماً، لا بأسَ في أن يلتزمَ أحدُهم بما يراه مناسباً لمِزاجه وراحته من تفاؤلٍ مُبالغٍ فيه وإيجابيةٍ عالية، لكنّي أرجوه ألّا يُفرطَ في الترويجِ لهما ويحاولَ التكسّب أو تحصيلِ الشُّهرة والإعجاب من ورائهما.. في حين تُعدّ مُشكلاتِه الشّخصيةِ رفاهيةً لكثيرٍ من البُؤساء والمحرومين.
- ومع أنني لا أتبنّاها، إلّا أنني أودُّ الختامَ بجملةٍ مُستفزّة لعملاقِ الأدب العالمي، سابرِ أغوارِ النّفس البشريةِ، وربّانِ السّوداويةِ الرّوائية (دوستويفسكي): «لا تسمحُوا لمُجرّد يومٍ جميلٍ أن يُشعركم بأنّ حياتَكم جميلة.. حياتُكم جحيمٌ وستبقى كذلك»!.