لا أعتقد أنه من الضروري الانتظار لنهاية الشتاء القارس في أوروبا لمعرفة ما إذا كان الرئيس الروسي بوتين سينجح في حربه على أوكرانيا، وما إذا كانت أوروبا ستثور ضد أمريكا التي تدفعها لمحاربة روسيا عبر مقاطعتها اقتصادياً، ودعم أوكرانيا عسكرياً، لأن تقييم الأمور حالياً وإلى أين وصلت على الساحتين الأوروبية والعالمية؛ يكشف الوضع الحالي للأزمة الأوكرانية.
أولا: لم ينجح بوتين فيما أراده بأوكرانيا حتى الآن، ولا يبدو أنه سينجح في ذلك، فهو أدخل جيشه في أوكرانيا ليفرض هيمنته عليها، وعدم السماح لالتحاقها بالناتو، أو بتواجد قوات عسكرية أجنبية على أراضيها، والسعي لتغيير الإدارة الأوكرانية القائمة؛ باستبدالها بحكومة يرضى عنها، فكان أن تراجعت قواته عن كييف (العاصمة الأوكرانية) وشمال أوكرانيا، وكان آخر انسحاب للجيش الروسي من خيرسون الجنوبية، وبالتالي فشلت ما أسماها «العملية الخاصة» في إنجاز مهمتها بتغيير النظام القائم في كييف، ويبقى أن نرى إن كان فلاديمير بوتين سينجح بالفوز في الانتخابات الرئاسية الروسية المقرر إجراؤها عام 2024م أم لا.
ثانيا: أوروبا التي راهن عليها البعض أنها سوف تتمرد على أمريكا، وتسحب دعمها عن أوكرانيا، أخذ قادتها الرئيسيين (ألمانيا وفرنسا) يُعبِّرون عن وقوفهم نفس الموقف الأمريكي من القضية الأوكرانية، وتصميمهم على دعم أوكرانيا. ومؤخراً نشرت مجلة «الفورين أفيرز» الأمريكية مقالاً كتبه المستشار الألماني الحالي، أولاف شولتس، يجزم فيه بأن أوروبا أخذت كل الاستعدادات لتعداد مصادر الطاقة، أكانت غازاً أو نفطاً أو طاقة متجددة، وأكد التطابق الكامل مع سياسة الولايات المتحدة، وتحدث عن أن العالم دخل زمن «أدى فيه التقدم التكنولوجي إلى خروج أكثر من مليار شخص من حالة الفقر»، وأشاد بالمستوى غير المسبوق من التواصل والتعاون والتجارة الدولية المتزايدة والعابرة للقارات.
من ناحية أخرى؛ كشف المستشار الألماني عن انخراط ألمانيا ضمن الحلف الأطلسي (الناتو) والاتحاد الأوروبي في الاستعداد العسكري، والمشاركة في المهمات التدريبية في دول أوروبية، وإرسال المعدات العسكرية من بلاده إلى أوكرانيا للدفاع عن نفسها، وأشار إلى أن بلاده استقبلت مليون شخص لجأوا إليها من أوكرانيا.
بالإضافة إلى هاتين النقطتين فيما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، فإنه يلاحظ أن الصين تخطو في تقاربها مع روسيا، فيما يتعلق بحربها الأوكرانية، خطوات حذرة وبحسابات خاصة، وليست كما كان يتوقعه البعض من أن تقف في الصف الروسي بحزمٍ وقوة، حيث تسعى الصين إلى مواصلة الاستفادة من النظام العالمي القائم اقتصادياً، وتتصرف بشكل لا يهدد مصالحها، (تجارتها مع أوروبا وأمريكا 26%، مقارنة بـ2% مع روسيا).
يدفع العالم أو يندفع، نحو عولمة جديدة، وبروز أقطاب صغيرة ومتوسطة جديدة مع قطب رئيسي واحد، وتساهم الحرب الأوكرانية بدورٍ هام في هذا الأمر، إذ أن الهجرة الأوكرانية إلى أوروبا، وقبلها السورية والعراقية وغيرها؛ يتم إعادة تأهيلها في البلاد التي هاجروا إليها، وسيقود التغيير الديموغرافي الحاصل إلى بداية مرحلة عولمة جديدة وعالم تعددي، وستواجه أوروبا، قريبًا، حقيقة أن الأصول البيضاء الأوروبية تتقلَّص على حساب الهجرة التي ستكون في غالبها مُلوَّنة، ونحن نشاهد هذه التغييرات على الساحات السياسية الدولية، (وكمثال، بينما كان فريق الكرة المغربي الإفريقي مُؤلَّف من لاعبين أقرب لأن يُوصفوا بالبيض، فإن فريق الكرة الفرنسية، تألَّف من فرنسيين من أصول سوداء)، وكذلك الأمر بمناصب وزارية في فرنسا ودول أوروبية أخرى؛ بما فيها بريطانيا، التي أصبح رئيس وزرائها من أصول هندية، وعدد لا يُستهان به من وزرائها من غير البيض البريطانيين، وكل هذه المتغيرات التي لا تبدو الآن أن لها علاقة مباشرة بالحرب الأوكرانية؛ تشير إلى أن هناك قوى أو نُخب دولية لديها تصوُّر لعالم تعددي تُنفِّذه بنجاح، وهو موضوع يستحق أن يهتم بدراسته صانعو القرار في دولنا العربية.