هناك مقولة تاريخية استُشْهِد بها على تفكُّك العرب، وعدم التفافهم حول رأي واحد يجعل منهم قوة صلبة في وجه الأعداء، وربما هي مُقتَبَسَة من مقولة جمال الدين الأفغاني حينما قال: (سر أدواء العرب داء انقسام أهله، يتَّحدون على الاختلاف، ويختلفون على الاتحاد، وقد اتفقوا ألا يتفقوا).
ومنذ الحرب العالمية الثانية واستقلال الدول العربية؛ أصبحت كل دولة تميل سياسياً إلى دولٍ حسب مصالحها السياسية والاقتصادية؛ وكثيراً ما تتعارض مع مصالح وسياسات الدول الأخرى، مما أضعف الكيان العربي كوحدة في وجه الطغيان، والابتزاز، والعجرفة السياسية، وازدواج المعايير؛ ناهيك عن حروب شُنّت في العالم فقلبت الموازين، حيث لم يعد هناك قطب واحد مُتحكِّم، بل أقطاب متعددة.
وفي ظل هذا الموج المتلاطم، وظلمات بعضها فوق بعض من التوترات الدولية والجيوسياسية والاقتصادية، وما خلَّفتها الآن الحرب الروسية الأوكرانية من دمار، وقطع لسلاسل الإمداد العالمي، وفقد للأمن الغذائي في كثير من الدول.. لاح في الأفق نجم السعودية؛ كدولةٍ من دول العشرين، ولاعب رئيس في سوق الطاقة والاقتصاد العالمي، فرأت ضرورة تنوُّع التحالفات والشراكات لدعم أمن المنطقة؛ فجاءت القمة العربية الصينية، وبدعوة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز -حفظه الله-، وتأييد من الدول العربية المشاركة، وهي بعنوان: (التعاون والشراكة)، لتحقيق مشاريع استثمارية ومبادرات بين الدول العربية والصين؛ والتي تعتبر حليف تاريخي ومنذ أكثر من 2000 عام، حيث تنتج أنفس البضائع التي تجد لها أسواقاً خصبة في الشرق الأدنى والأوسط؛ وهذه القمة العربية الصينية قد أعادت وهج العلاقات التاريخية الثقافية والتجارية، وأحيت طريق الحرير الذي كان شريان التجارة، وكذلك الحزام الأخضر كأضخم مشروع إستراتيجي.
وفي العصر الحديث تعتبر الصين أكبر مستهلك للطاقة في العالم بحلول 2030م، وسيُمثِّل الشرق الأوسط لوحده 70% من احتياطات الصين من الطاقة، كما ترغب الصين في كسر العزلة بعد وباء كورونا، والانفتاح على العالم من جديد لتأمين أسواقها، وعودة العالم العربي لمصنع الصين، وهنا تتلاقَى المصالح الصينية والعربية، وكما قال سيدي سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان في كلمته التاريخية في لقاء القمة العربية الصينية: «إن العرب سيُسابقون على التقدُّم والنهضة مرةً أخرى، وسوف نُثبت ذلك اليوم، فدولنا تُولي أهمية قصوى لدعم مسيرة التطور والتنمية من أجل تطوير اقتصاداتها ورفاهية شعوبها».
وقد جاء البيان الختامي، ليُؤكِّد للعالم قرار جميع الدول العربية مجتمعة أنه: لا سلام حقيقي دون التنمية المستدامة؛ ولا تنمية وازدهار دون استقرار، وقد شمل الاتفاق التاريخي على 24 بنداً أساسيا أهمها: التأكيد على تعزيز الشراكة الإستراتيجية بين الدول العربية والصين، والعمل على التعاون في مختلف المجالات، والعمل بميثاق هيئة الأمم المتحدة القائمة على الاحترام وسيادة الدول ووحدة أراضيها، وعدم التدخُّل في شؤونها الداخلية بحجة الديمقراطية، وكذلك التأكيد على أن القضية الفلسطينية هي قضية العرب جميعهم؛ وضرورة تطبيق حل الدولتين لإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية.
كما تضمَّن البيان أهمية إيجاد حلول سلمية للأزمات والقضايا الإقليمية وفقاً للقرارات الشرعية الدولية، وخاصةً الأزمات في سوريا، وليبيا، واليمن، والعراق ولبنان، والتأكيد على وحدة وسلامة وسيادة تلك الدول، ورفض التدخلات الأجنبية. بل اتفقوا على احترام اختيار الدول لرؤاها التنموية وإرادتها المستقلة، وأهمية الحد من الفقر والقضاء عليه، والتشارك في مبادرة الحزام والطريق بما يُتيحه من فرصٍ واعدة من التعاون والتنمية، ومن الأهمية أيضاً أن تكون الصين شريكاً رئيساً في حوكمة الفضاء السيبراني، ودعم الجهود الرامية إلى الحد من انتشار الأسلحة النووية، وأسلحة الدمار الشامل، كما أكد على أهمية الحوار بين الحضارات، واحترام الثقافات المختلفة، ونبذ الكراهية والتطرف بين أتباع الديانات والثقافات.
وفي كلمته قال الرئيس الصيني «شي جين بينغ»: (أنا أُتابع نجاحات المملكة التي استطاعت أن تُواجه التحديات العالمية)؛ في إشارةٍ إلى ملف الطاقة الذي لم ترغب السعودية في توظيفه؛ لا في الانتخابات الأمريكية ولا في الحرب الروسية ولا ضد الصين.
نعم، اجتمعت الدول العربية من الخليج إلى المحيط لتكون على كلمة سواء في قمة قادها «ابن سلمان»، لتقول للعالم: جاء الوقت على أن يتفق العرب على أن يتفقوا.