Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. عادل خميس الزهراني

الروبوت/القاص والروائي الناشئ: أمبرتو إكو والسرد

A A
في (اعترافات روائي ناشئ) يناقش إمبرتو إيكو وهو حينها في السابعة والسبعين، بعض الآراء المشكِّكة في مصدر روايته الشهيرة (اسم الوردة)، وقد انقسمت بين مَنْ ربط بينها وبين كتب وروايات أخرى سابقة، وبين من رأى أن إيكو اعتمد على برنامج إلكتروني أثناء كتابتها، ليضبط تفاصيلها الدقيقة والمعقدة.

يؤكد إيكو أولاً أن الرواية كانت قد ظهرت في العام 1978م أي قبل ظهور البرامج التي يتحدثون عنها، ثم ينتقل ليشير إلى ما دعاه ساخراً: «الوصفة الحقيقية من أجل صناعة كتاب إلكتروني يكون ناجحاً تجارياً».. الوصفة باختصار تتطلب وجود «حاسوب -وهو آلة ذكية تفكر مكانك- وهذا يشكّل عند الكثيرين امتيازاً.. برنامج من سطور قليلة كافٍ للقيام بذلك، إن الأمر يتعلق بلعبة أطفال»، هكذا يعبّر إيكو.

تتضمن الوصفةُ -كما يشرح الناقد والروائي الإيطالي الراحل- حشوَ الحاسوب بمئات الروايات والكتب الدينية والعلمية ودلائل الهاتف ما سيُنتِج قرابة 120 ألف صفحة، ثم بالاعتماد على برنامج آخر تُقلص الكمية عن طريق الحذف والمزج بين النصوص، ثم تُطبع الصفحات الباقية، وبعد قراءات متكررة لكل ما طبع، تؤخذ الأوراق وتُحرَق في المحرقة، وبعدها، يكمل إيكو: «نجلس تحت شجرة وبين أيدينا قلم من الفحم وأجود أنواع الورق، وبعد أن نحلق بذهننا بعيداً نكتب سطرين من قبيل: «القمر يلوح بعيداً في السماء -والغابة ترتعش، يمكن أن تتولد عنها رواية».

يظهر من هذا المقتبس أمران: أن إيكو كان لا يؤمن بقدرة البرامج على كتابة رواية محكمة، وأنه يؤمن فقط بمقدرة البشر على كتابة الأدب.. ولست أدري إن سمح له الوقت -وقد عُمّر- لأن يغيّر نظرته بعد أن شهد تتالي الإنجازات التكنولوجية في هذا الشأن.. غير أني لا ألومه في موقفه هذا، ومن أنا لأفعل.. لكن هذا المدخل يساعدني على فتح أبواب مهمة في هذا الشأن، من أهمها -في رأيي- أن السرد يأتي استجابة لغريزة إنسانية متجذرة، تنطلق من حب الحكايات؛ قولِها وسماعها.. وهي غريزة بدأت على ما يبدو منذ الإنسان الأول الذي توصل إلى إشباعها عن طريق بناء الحكايات الشعبية والخرافات والأساطير، بإدراك أو دون إدراك أن ما يفعله محاكاة للواقع السردي للحياة التي يعيشها ويشهدها.. الحياة قصة طويلة تتضمن فسيفساء قصص صغيرة، وتطوير آلية لحكي هذه الحكايات والاستمتاع بها يشكّل صناعةَ واقعٍ موازٍ يسائل معاني هذه الحياة وصراعاتها اعتماداً على الأدب.. لذلك قلت -ويقول متخصصو النقد الواعون-: إن جوهر التجربة الأدبية في السرد ينطلق من الحكاية وطريقة سردها.. تتشكّل خيوط القصة في مخيلة القاص وتكبر حتى تكتمل على الورق حدثاً أدبياً يجتمع حوله الجمهور ويتزاحم عليه القراء.. ولأن الخيال (المفتوح الجامح) أحد أهم عناصر الأدب فإنه يمثّل نقطة التقاءٍ مهمة بعالم التكنولوجيا واختراعاته المتتالية.

غير أننا -حين نتحدث عن الروبوت السردي وبرامج الذكاء الاصطناعي التي تنتج السرد بصورة آلية- نصل لنقطة متطرفة نوعاً ما، تستلم فيها الآلة زمام السرد وتتحكم فيه، وهكذا يفقد الإنسان شيئاً فشيئاً السيطرة على منتجٍ عزيز من منتجاته.. وإن كانت القصة هي الحياة كما ذكرت سابقاً، فهذا يعني أن يدخل الروبوت -وقد أضحى سارداً- في ذاكرة الحياة، ويشارك في صنعها، ونسج حبكتها، وتبئيرها.. أن يتحكم الروبوت في زاوية الرؤية يعني أن يتحول إلى ذات فاعلة، أن يسيطر على مسار الأحداث، ويحكي من وجهة نظره، وجهة نظر آلي يشارك البشر حياتهم، وتفاصيل عيشهم.. هل يخطر لكم الآن كتابة التاريخ، بوصفه ممارسة سردية بحتة، وما يمكنه أن يستحيل إليه الأمر، وقد دخلت الآلة لتكون لاعباً رئيساً في صنعه، وفي كتابته!؟

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store