هناك قصة معبرة من التراث الإفريقي تقول: كان هناك صياد ماهر لكنه كبر في السن وبدأ بصره يضعف شيئاً فشيئاً، حتى فقده تماماً، ولأنه كان لا يزال قوياً جداً فقد واصل الصيد بمساعدة اثنين من الرجال كانا في غاية اللطف معه وساعداه بكل وسيلة ممكنة، كانا يقودانه كل صباح للشاطئ ومن ثم إلى القارب، ثم يخبرانه أين يرمي شبكته ومتى يسحبها وحين يعود الجميع إلى اليابسة يقولان له أين ومتى يخطو خارج القارب كي لا يتعرض للغرق، وقد استمر الحال هكذا شهوراً عديدة!!
الغريب؛ أن الصياد الأعمى بدلاً من أن يبدي امتنانه لهما فقد عاملهما بقسوة، فعندما يقولان له أين يرمي شبكته يرد عليهما بحدة؛ أعرف، كنت على وشك رميها هناك، وحين يحاولان توجيهه للنزول من القارب يجيبهما؛ أوه أعرف تمامًا أننا وصلنا إلى الشاطىء، لقد كنت أحضر نفسي للنزول، وكذلك بقي الحال لوقت طويل، وأصبح الصياد الأعمى أكثر فظاظة في التعامل مع مساعديه يوماً بعد الآخر، لدرجة أنهما لم يقدرا على تحمل معاملته لهما أكثر من ذلك، فقررا أن يعاقباه على جحوده حين تتهيأ لهما الفرصة السانحة!!
وفي اليوم التالي؛ رافقهما كالمعتاد إلى الشاطىء، وطلبا منه أن يصعد للقارب، وكان يكرر نفس الإساءة لهما طوال الرحلة حتى امتلأ القارب بالسمك واتخذا طريق العودة، وحين قطعا مسافة قصيرة توقفا، وقالا له: وصلنا للشاطىء، وعلى الفور رد عليهما بأنهما على درجة كبيرة من الحماقة كي يخبراه بشيء يعرفه جيدًا وأسمعهما عدة كلمات فظة ومهينة!!
وهنا قفز الصياد الأعمى بكل كبرياء للماء منتظراً أن تطأ قدماه اليابسة فذهل بشدة حين وجد نفسه يغرق، أما الرجلان فقد جدفا سريعًا وتركاه خلفهما ليشق طريقه بجهد كبير، وبطبيعة الحال كان سباحًا ماهرًا مثل كل صيادي تلك البلدة، لكن لأنه أعمى لم يكن قادرًا على رؤية اليابسة وتحديد وجهته، فسبح حتى أصيب بالإعياء ومن ثم قضى غرقاً!!
نعم عزيزي القارئ؛ الذي تفكر فيه هنا، فكرت فيه أنا ايضاً، فالأمثلة من حولنا كثيرة لهذا (الصياد الأعمى) وعلى رأسها؛ ذلك المدير الذي كان ماهراً لكنه كبر في السن وفقد قواه، ومع هذا لا يزال يحتفظ بمنصبه معتمداً على معاونيه الأمينين واللطيفين لتسيير العمل، واللذين يساعدانه ويقودانه كل صباح لشاطىء الأمان، رغم تلاطم الأمواج الوظيفية العاتية من حوله، وبدلاً من أن يبدي امتنانه لهما تجده يعاملهما بكل جحود وقسوة، حين يسرق جهودهما ويقف حجر عثرة أمام مستقبلهما، متحسساً كلما أوضحوا له (الطريق الصحيحة)، وفظاً بتعامله كلما ظن أنهما يخططان لأخذ مكانه والجلوس على كرسيه!!
لكن غالباً ما يأتي اليوم الذي يضع فيه الموظفان الأمينان حداً لعلاقتهما الطيبة بذلك (المدير الأعمى) الذي يسرق جهودهما ويعاملهما بكل جحود وقسوة إما بكشف أوراقه للإدارة العليا، أو التخلي عنه تماماً، ليواجه مصيره الوظيفي المحتوم بتقاعده أو نقله إلى إدارة هامشية نائية!!