جمعتنا في معرض الكتاب الأخير بجدة ندوة حوارية ماتعة حول الخطاب الأخضر في الأدب السعودي، بتنظيم مشترك بين نادي مكة الأدبي وهيئة الأدب والنشر والترجمة، وكنت مع الزملاء د. علي المالكي ود. أماني الأنصاري حين تناولنا جوانب مختلفة من النقد البيئي والعلاقة بين الأدب والطبيعة، وتفاعلات الأدب السعودي بفنونه المختلفة مع الطبيعة وقضاياها الجغرافية والتاريخية والفكرية.
وانطلاقاً من تخصصي في النقد، فقد حاولت في مشاركتي التركيز على محور النقد البيئي، متكئاً على مقالة نشرها الأصدقاء في مجلة سياق التابعة لجميعة الأدب المقارن الفتية.. لطالما كانت الطبيعة مركزاً وجودياً للإنسان، لكنها لم تحضر في سياق النقد الأدبي إلا بوصفها موضوعاً من موضوعات الأدب، أو حاضنةً (وفضاءً) للعمل الأدبي.. وقد انتظر الإنسان ظهور الموجة الرومانتيكية لتصبح الطبيعة موضوعاً محورياً للشاعر الرومانسي، يحاورها ويتماهى معها، ورغم ذلك لم تطور النظرة النقدية توجهاً أو مدرسة تخصص نظرتها وأدواتها للطبيعة حتى تبلور في العصر الحديث ما يدعى بالنقد البيئي.
أقول هذا وبين يديّ كتاب جديد ومهم في هذا السياق، أعني كتاب (النقد البيئي: مفاهيم وتطبيقات)، الصادر عن دار الانتشار ببيروت ووحدة السرديات بجامعة الملك سعود هذا العام ٢٠٢٢، بمشاركة عدد من النقاد: (معجب العدواني، وأبو المعاطي الرمادي، وبسمة عروس، وأحمد صبرة، وأحمد المنصور، وميساء الخواجا، ووداد نوفل).. الكتاب مهم في رأيي؛ ليس لأن الإسهام العربي في هذا المجال محدود ونادر فحسب، بل لأنه يسد فراغاً في منطقة احتدم فيها النقاش العالمي، وأصبح سؤال البيئة سؤالاً جدلياً عالمياً، من شأن هذا الإسهام أن يضيء جانباً من جوانبه، لكي لا نظل على هامش القضايا الفكرية العالمية.
يجد المتحمسون في هذا الفرع النقدي فرصة للتعامل مع منظومة من القضايا المتقاطعة بين البيئة ومخرجات الثقافة، من هنا يعد المجال حقلاً من الحقول البينية التي يلتقي فيها الأدب، والنقد الأدبي، والنقد الثقافي، والجغرافيا، والأنثروبولوجيا، وعلوم الأرض، وغيرها.. وهكذا يعمد النقاد البيئيون إلى الانطلاق في أعمالهم من وجهة نظر بيئية محضة، تسعى لتكريس حقوق البيئة وإبراز المخاطر التي يواجهها العالم بتجاهلهم وإهمالهم لتلك المخاطر.. يشكّل البعد السياسي -كما نلاحظ- ركيزة من ركائز الخطاب النقدي لهذه المدرسة؛ يدرس النقاد الأعمال الأدبية والفنية الكلاسيكية والحديثة اعتماداً على مقاربات مختلفة، تتفق جميعها حول واحد من أشهر أهداف الاتجاه النقدي الذي يتلخص في محو الهوة والانقسام بين الطبيعة والمجتمع، لأن المجتمع جزء من الطبيعة، والطبيعة أم المجتمع وحضنه الدافئ.. وهكذا تجد أطروحات نقاد (النقد البيئي) مليئة بالإعلاء من شأن البيئة، وأهمية المحافظة عليها، وعودة الإنسان للتماهي الروحي والحسي في أحضانها، وتندد عادة بندرة المساعي التي تطرق المشاكل والأزمات البيئية، بقدر ما تنتقد الخطاب الذي يحوّل البيئة إلى مجرد مفاهيم وأفكار رومانسية في مخيلة البشر.. ويعد هذا الخطاب -بطبيعة الحال- متسقاً من منظمات حقوق الطبيعة وحملات الدفاع عنها، مثل حملات مواجهة تغير المناخ التي احتدمت في العقدين الأخيرين بصورة ملحوظة.
ويشير الناقد الأمريكي بيتر باري (Peter Barry) إلى تأثر الحركتين (الأمريكية والبريطانية) بالحركة الرومانتيكية في القرن التاسع عشر.. وإن كان الأمريكيون يفضلون المصطلح (ecocriticism) فإن المصطلح الأكثر تداولاً في السياق البريطاني والأوروبي هو (green studies)، كلا الحركتين متأثرتان بكتّاب رومانسيين اهتموا بدور الطبيعة في بناء الوعي الإنساني وثقافته.. وتظهر في الكتابات الأمريكية نغمة التفاؤل والاحتفاء بالبيئة، بنما تسيطر على الصوت الأوروبي لغة التحذير من المخاطر وصرخات إيقاظ الضمير الإنساني للالتفات للطبيعة والاهتمام بها وتغيير السلوك البشري الاستهلاكي، وهي نقطة يشير إليها كتاب وحدة السرديات في قسمه النظري.