* دخلت (الثلوثية) التي كانت ملء السمع والبصر، مرحلة الموت البطيء بمجرد تقاعد صاحبها (المسؤول)، التقاعد المرحلة (الصدق) في حياة الموظف، أقول الصدق؛ لأنها مرحلة تُظهر له حقيقة ذلك الجمع الذي كان يخطب وده، بل وتظهر العدد الصحيح لأصدقائه، وهو عدد إن استعانت فيه أصابع اليد الواحدة باليد الأخرى فصاحبها ذو حظٍ عظيم.
* حيث تُثبت مدرسة الحياة أنه لا اختبار حقيقي لمدعي الصداقة سوى (الحاجة)، عندها ستعرف أيها المغرور بكثرة سواد من حولك أنه ليس سوى (عدد في ليمون)، فلا ينجح في ذلك الاختبار إلا من كان صادقاً في صداقته، وهو صدق لا يضع في اعتباره سوى ذات الشخص بعيدًا عما يملك، وأين يقف، وما مدى الحاجة إليه كما هو حديث (مركزه).
* وإلا لما تواردت أخبار(الجحود) من قامات بامتداد الوطن، وكيف أنهم وبمجرد مغادرتهم كرسي (المسؤول) بدأ يخفت بريق كان يحيطهم به من حولهم، وصولاً إلى أنه لم يعد يسأل عنهم أحد، وعندما يحاولون تلطيف أجواء وحدتهم يُصدمون بحقيقة صديق أو اثنين هم كل ما خرجوا به من (ترسيمة) البشت، وكل ذلك الجمع الذي كان يقف عند مروره تقديراً لمكانته، وعلو شأنه، ورفعة قدره أو قل صدى (توقيعه).
* فيالها من صورة (وهمية) تأخذ المرء إلى حيث تلك الأجنحة (المستعارة)، التي يطير بها إلى حيث فجأة أن (تُسلب) منه فوراً، وبمجرد (تقاعده)؛ ليهوي على أرض قاحلة يمضي فيها وحيداً، يلتفت يمنة ويسرة، فلا يجد أحداً، فلا يكون منه إلا أن يدخل في مرحلة قاسية من مكابدة (الوحدة)، كما ينقل ذلك من عايش قسوة أن تكون الكل في الكل، ثم من صباح الغد تبدأ مرحلة جديدة من أنت فقط، نعم أنت، ولكن بدون الكل.
* فهذا سعادة الدكتور الذي يغرد (وجعاً)، بعد خدمة 35 سنة، يطوي عامه الأول من تقاعده دون أي تواصل يشعره ولو من باب الامتنان لجهوده، والاستفادة من خبرته، يتقاطع معه في ذلك تلك الشخصية الأكاديمية المعروفة، التي حضرت أحد الفعاليات التي كان فارسها، وسيد (ميدانها)، فيطلب منه تغيير مقعده إلى الخلف، بعد عمر من تصدر مشهد لم يعد كما كان بعد أن كشر واقع (التقاعد) عن أنيابه.
* وبعودة إلى الوجيه القيمة والقامة صاحب (الثلوثية)، التي (كانت) عامرة تعج بالرواد، والزائرين القاصدين مركزه لا شخصه، بدليل تحولها إلى (أطلال) بعد تقاعده، فإنه قد أوجز، وأجاد في وصف ذلك الواقع، وبما يمثل (درس حياة)، حيث أجاب على تساؤل من استغرب تلك النهاية المحزنة، وبما لا أجد معه ما يستحق مني الإضافة، فقد كفى بإجابته ووفى، دون أن أُخفي إعجابي بتصالحه مع ذاته وهو يقول (مبتسماً): إذا خلصت المصالح يصير الحلو مالح.. وعلمي وسلامتكم.