في محاضرة في نادي جدة الأدبي، قدّم لها الأديب والإعلامي رئيس النادي آنذاك عبدالفتاح أبومدين -يرحمه الله-، استحضر فضيلة الشيخ جمال سيروان عدداً من الشواهد التي تُبرز "الوسطية في الدين الإسلامي" في أجلى صورها، وأكمل معانيها، مستعرضاً منظومة القِيَم الجليلة التي قامت عليها، والتي كرَّست لمفاهيم الاعتدال منذ فجر التاريخ الإسلامي.
فبعد أن وقف المحاضر على التفسير اللغوي لـ"الوسط"، استعرض مفاهيم الوسطية في الإسلام بدءاً من الوسطية في الزمان، ثم وسطية المكان. وتطرق المحاضر إلى الوسطية في صاحب الرسالة محمد صلى الله عليه وسلم، معرجاً على الوسطية في منهج الرسالة الإسلامية، مبيناً أن منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في تطبيق الأحكام قائم على الرأفة وعدم الإثقال على المسلمين في جميع التكاليف، وأن المنهج القرآني والسلوك النبوي يدعوان إلى الاعتدال، ويُحذِّران من الغلو والتنطُّع، أو الإفراط والتفريط.
ثم يتناول المحاضر الوسطية بين الروح والجسد، حيث اهتم الإسلام بتربية الجسد والحض على التدرب على وسائل سلامته بالرياضة والفروسية، حتى يكون جسداً قوياً تتضامن معه الروح ليُحققا وسطية ذات خير عميم.
ويتوقف المحاضر في معرض حديثه عن وسطية الفرد والمجتمع، مبيناً أن الإسلام قد عالج النزعتين الفردية والجماعية بما يوائم بينهما ويُغذِّي تلاحمهما.
وتتجلَّى صور الوسطية في العلم والمعرفة، حيث استطاع أتباع هذا الدين أن يتسيَّدوا المشهد الفكري في مختلف العلوم والثقافات، بعد أن كانوا غلاظاً قساة، فجاء الإسلام وارتقى بهم في آفاقه الإنسانية فصاروا أساتذة الهداية في تاريخ الإنسانية.
ويختتم المحاضر حديثه بالوقوف مع وسطية الحكم والقضاء، فلا جور ولا تمايز ولا تعسف، ثم وسطية القانون والضمير بعد إظهار المباحات والمحظورات وتوضيح مغبّة ارتكاب المنهيّات من خلال قوانين صارمة.
لقد تجلت معاني الوسطية من خلال عناية الإسلام بالتوجيه والتسديد والرعاية والتهذيب، ثم إقامة عصا العقوبة والتأديب إذا لم تصلح النصيحة.
وقبل ذلك كله عناية المنهج الإسلامي بإيقاظ الحس الفردي من خلال تحفيز الضمير وزرع خشية الله في القلوب.
لقد أوضحت مضامين هذه المحاضرة الملهمة أن الدين الإسلامي لم يكن روحياً مجرداً ولا جسدياً جامداً، بل إنسانياً وسطاً، يتلاءم مع الفطرة البشرية.