أستمتع كثيراً بزيارة أسطنبول في تركيا عندما تُتاح لي الفرصة، وأراها من أجمل مدن العالم، وأتأمَّل في تاريخ أوروبا والعالم بينما أجلس على ضفة مضيق البوسفور أتناول الفطور، وأُشاهد السفن التجارية وغير التجارية تعبر المضيق فيما بين البحر الأبيض المتوسط، عبر بحر مرمرة، والبحر الأسود. وبصرف النظر عن وجهة نظري فيما يتعلق بأداء الرئيس التركي الحالي، رجب طيب أردوغان، المتميز بالانتهازية السياسية، فإن صعوده إلى منصب رئيس بلدية أسطنبول، عام 1994، أدى إلى ازدهار اقتصادي للمدينة في تطور مثير، ودفع نجاحه هناك إلى تأسيسه مع رفيق دربه عبدالله غل حزباً تحت اسم «حزب العدالة والتنمية»، وشاركه في ذلك عدد من أبرز رجال السياسة والاقتصاد في تركيا.
وأدت التقلبات التي ميَّزت حكم رجب طيب أردوغان إلى تحقيق الكثير من الاستقرار والرخاء الاقتصادي، وإن كان على حساب الحريات، كما يقول منتقدوه. بل إن النجاح أثر عليه كثيراً بشكل سلبي، وجعله يشعر بتفوق على الآخرين، وأدى إلى اختلافه مع رفاق دربه، وأبرزهم عبدالله غل، رئيس وزراء سابق، وداؤود أوغلو، وزير خارجية سابق، وعلي بابا جان، وزير مالية سابق، وشهدت الأسابيع القليلة الماضية هجوماً وتجريحاً من أردوغان بزملائه القدامى الذين أسسوا أحزاباً معارضة له عام 2019 (داؤود أوغلو، أسس حزب المستقبل، وعلي بابا جان، أسس حزب الديمقراطية والتقدم) مقابل نقدهم له واتهامه بالفساد وسوء الإدارة.
وتزداد الحملات السياسية في تركيا هذه الأيام شراسة مع قرب موعد الانتخابات الرئاسية والنيابية، والتي من المتوقع أن تكون يوم 14 مايو القادم. ويرغب الرئيس أردوغان الترشيح للرئاسة فيها، بينما يقول معارضوه أنه لا يحق له ذلك بموجب الدستور، الذي ينص على أن لا ينتخب الرئيس أكثر من فترتين رئاسيتين، مدة كل منهما خمس سنوات، لكن حلفاء أردوغان يُجادلون بأن الفترة الرئاسية الأولى كانت قبل استفتاء النظام الجديد، حيث كان أردوغان رئيساً من عام 2014 إلى عام 2018 حينما أقر الناخبون النظام الجديد، وحينها أعيد انتخاب أردوغان عام 2018 لفترة رئاسية تستمر لخمس سنوات، وهي فترة أولى لرئاسته بموجب هذا التعديل الدستوري.
سوف يبلغ أردوغان الستين من عمره في شهر فبراير القادم، ويواجه معارضة شديدة، لكن المعارضين عاجزون حتى الآن عن الاتفاق فيما بينهم على اسم مرشح للرئاسة يتمكن من منافسة هذا الثعلب السياسي. ولذا فإن احتمالات فوزه بالرئاسة لخمس سنوات قادمة أصبح ممكناً، وأما حزب (العدالة والتنمية) فإنه لا يتمتع بشعبية كافية تؤمِّن له أغلبية المقاعد البرلمانية. وتُواجه الحكومة العديد من المشاكل والأزمات، ومن أبرزها اللاجئين السوريين في البلاد، وعددهم يقرب من أربعة ملايين لاجئ. ويحاول أردوغان الحديث عن نيته الاتفاق مع النظام السوري حتى يتمكن من إعادة السوريين إلى بلادهم، وهذا أمر من الصعب أو المستحيل تنفيذه بدون جهد دولي، وقيام نظام سوري قائم يستطيع ممارسة السلطة بدون التدخل الإيراني، إلى جانب ضرورات أخرى لا تتوفر في هذه المرحلة لتحقيق استقرار في سوريا يساعد على عودة السوريين إلى أرضهم. لذا ينظر إلى حديث أردوغان هذا على أنه دعاية سياسية انتخابية سوف تتغيَّر وتيرتها بعد الانتخابات القادمة.
وتواجه حكومة أردوغان مشكلة اقتصادية حادة مثل العديد من اقتصاديات العالم، إلا أن ميوله لفرض الحلول التي تناسبه دفعت به للضغط على البنك المركزي لتقليص الفائدة البنكية، وتيسير السيولة النقدية، عكس ما يتم في الدول الأخرى، مما أدى إلى ارتفاع مستوى التضخم إلى 64 بالمائة بنهاية شهر ديسمبر الماضي، ثم زاد المعاشات التقاعدية وأجور موظفي الخدمة المدنية بشكل كبير، ورفع الحد الأدنى للأجور. وكلها إجراءات قد تتيح له الحصول على المزيد من أصوات الناخبين، ولكنها لا تضمن النجاح في معالجة الوضع الاقتصادي المتدهور. لذا فإن المتوقع هو أن تتحقق لأردوغان فترة رئاسية أخرى بينما لا يعرف ماذا سيحدث لاقتصاد تركيا واستقرارها في السنين القليلة القادمة، ما لم تكن تقديرات الاقتصاديين الدوليين في هذا الأمر خاطئة.