Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. عادل خميس الزهراني

للشعر.. لسيّد السحر.. في عامه المجيد

A A
تسابق الروحُ الحروف، في هذه اللحظات المتأخرة من مساء الثلاثاء، وبعد ساعة من موافقة مجلس الوزراء على تسمية عام (2023) «عامَ الشعر العربي»، تسابق الروحُ الحروف، وتقفز على السطور بهجة وتهليلاً.. لا أعلم لماذا تفعل الروح ذلك! ولا أعلم لمَ أنا مبتهجٌ كأن المجلس أعلن أن العام عامي أنا..!

تحدوني رغبة شديدة أن أقفز في حضن مكتبتي، وأحتفل مع عصابة أصدقاء العمر؛ نشرب من نبيذ الأعشى، ونرقص مع النابغة على جرح النابغة، ونلقي على أبي تمامٍ التحية، ثم نسرق من بشارٍ بقية البقية.. تحدوني رغبة مجنونة لأنبش صدرَ الثبيتي، لأحتطبَ ضلوعه، ستنشق من قلبه بخورَ المجاز.. وسيرة الحجاز، لأحلف له كاذباً:

إنا انتظرناك حتى تكون سمانا.. وصحراءنا

وهوانا الذي يستبد فلا تحتويه النعوت.

تراودني نفسي -الأمارة بالشعر- لأن أُكذّبَ درويش، وأشاغب باقي الدراويش من بعده، معلناً: هي -فعلاً- لا تحبك أنت، يعجبها مجازك.. ونحن كذلك يعجبنا مجازك.. أنت شاعرنا وهذا كل ما في «الخمر».

أشعر أني على بعد نارٍ من رماد نزارْ، على بُعد فورة من ثورة عبدالله الفيصل، وعلى مرأى خديعة أذان من ديك الجن.

محلّقٌ أنا الليلة في ملكوتٍ عجيب، وبساط سحري بقربي، يركبه هايدقر كأنه الزير صارخًا بصوت أمل دنقل: يا عادل، لا تصالح.. ولو منحوك الذهب.. أتُرى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما هل ترى؟! هي أشياء لا تُشترى!

أستعيذ من الشيطان، فأرى هايدقر يخاطبني بلسانه، ويقول: هل نسيت أن «الشعر هو التسمية التأسيسية للكائن، ولجوهر كل الأشياء.. هذا ليس قولاً تعسفياً.. إن الشعر هو الذي يبدأ بجعل اللغة ممكنة».. أنظر لمن يحدثني، فأجده فيلسوف الظاهراتية الأبرز، أتعجب.. ثم أبكي.. ويقفز ابن الأحنف، صديقي القطوع، منشداً يهزأ بي:

نَزَفَ البُكاءُ دُموعَ عَينِكَ فَاِستَعِر

عَيناً لِغَيرِكَ دَمعُها مِدرارُ

مَن ذا يُعيرُكَ عَينَهُ تَبكي بِها

أَرَأَيتَ عَيناً لِلبُكاءِ تُعارُ

أستمع له .. فأرعوي.. وأنظر لما قال.. فألاحظ أن بيتي العباس يمثلان تفاعل المبدع والنص والمتلقي مع تجربة إنسانية مميزة تبدأ باللغة، وتنبثق في آفاق المعنى بلا حدود، ألاحظ لغةَ الخطاب المباشر في البداية: (المشورة باستعارة العين، ثم أسلوب التساؤل الإنكاري: من ذا.. أرأيت..)، وأركز في الإيقاع خارجي المتمثل في وزن البحر الكامل، والقافية ورويها (الراء المضمومة)، ثم أمعن النظر في الإيقاع الداخلي الذي يشكّله حوار النفس مع ذاتها (شخص يخاطب نفسه: دموع عينك، فاستعر، من ذا يعيرك، أرأيت عيناً..)، ولا تفوتني الصور الفنية الصغيرة: (انتهاء دمع العين، استعارة عين أخرى، ثم صورة التقريع في البيت الثاني)، وهناك الصورة الفنية الكاملة في البيتين: (حوارٌ متخيّل غير حقيقي، لكنه جميل.. صورة مركبة: يتخيّل الشاعر حواراً بين شخصين هما في الحقيقة شخص واحد يخاطب ذاته، ويسائله عن كثرة بكائه، وينسج صورة استعارة العين لحل مشكلة جفاف الدمع، ثم ينقلب على نفسه، فيستنكر عليها إمكانية حدوث ذلك أي إعارة العين لشخص آخر.. وهكذا)، ألاحظ كل هذا، وأكثر بكثير، مما يمكن أن يقال عن تحليل هذين البيتين، وأنظر للنص فأجده يتحدث لي بكُلّيته (من الكُل.. لا من الكِلْية)، وأدرك أن جمال هذه العناصر في انصهارها داخل النص الشعري، وإيصالها لكل الرسائل الجمالية والأخلاقية والثقافية المختبئة فيها..

النص الشعري الحقيق مزيج من عناصر مصهورة في قالب لغوي متماسك وناضج، ينتج عنه قولنا: الله.. الله.. وهذه الـ(الله.. الله).. تخترق حواجز الزمان والمكان كما نعلم.. فنقول: الله، للخنساء، وجرير، للمتنبي، وشوقي، لنازك والسياب، لأنسي الحاج، ومحمد الثبيتي وغازي القصيبي وأحمد بخيت.. وأحمد الملا، ولبقية أعضاء العصابة.

«إني رأيت.. ألم ترَ.. عيناك خانهم الكرى».

أرى الفجر يلوح.. والبهجة لا تزال تنفخ في الروح.. لكني سأقف هنا.. فأمامي عامٌ كامل.. عامٌ مديد من الشعر.. وللشعر.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store