العرب بطبعهم منذ القدم وحتى يومنا هذا يجيدون الكلام ويبدعون في تنويع أساليبه وألوانه، وساعدهم في ذلك الثراء الذي تميزت به لغتهم العربية التي أراها كالبحر في عمقه واتساعه، ولعل هذه الميزة قد طوعوها أفضل تطويع لأساليب المفاخرة الفارغة التي لا تستند على منتج علمي ملموس يفيدون به أنفسهم ومن حولهم كغيرهم من الأمم التي اخترعت لهم كل شيء في مختلف المجالات الحياتية بينما هم -أي العرب- اشتغلوا بالكلام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، فعلى سبيل المثال لا التخصيص وما أكثر الأمثلة على ذلك لكن نكتفي بذكر أنموذج كان في العصر الجاهلي اخترته لأنه يمثل حال العرب قديماً وحديثاً خير تمثيل وهو ما قاله عمر بن كلثوم في هياطه أقصد في تفاخره بقبيلته حيث قال:
وقد علمَ القبائل من معدٍّ .. إذا قببٌ بأبطحها بُنينا
بأنا المُطعمــــــــون إذا قدرنا .. وأنا المهلكون إذا ابتُلينا
وأنا المانعـــــــون لما أردْنا .. وأنا النازلون بحيث شِينا
وأنا التاركون إذا سخطنا .. وأنا الآخذون إذا رَضينا
وأنا العاصمون إذا أُطعْنا .. وأنا العارمون إذا عُصينا
ونشرَب إن وردنا الماء صفوًا .. ويشرب غيرنا كدرًا وطينا
إذا ما الملْك سام الناس خسفًا .. أبينا أن نقرَّ الــــــــذلَّ فــــــــينا
ملأنا البر حتى ضاق عنا .. وماء البر نملؤه سَفينا
إذا بلَغ الفطـــــامَ لنا صبيٌّ .. تخرُّ له الجبابرُ ساجدينا
تلك المفاخرة النتنة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله (دعوها فإنها منتنة).. فالقصيدة تزخر بالهياط الفاخر الفارغ في التفاخر بالأنساب وبالغلبة على الغير بقطع الرقاب وسبي النساء والأموال وكأن تلك الممارسات الذميمة الخبيثة شرف وقيمة فاضلة يفاخرون بها كما توضحه أحد تلك الصور.
وعندما أراد الله تعالى إصلاح حال هذه الأمة أرسل إليهم رسولاً منهم لإصلاح تلك الحالة السوداوية وجمع الله لهم في تلك الرسالة كل الحلول التي تضمنها كتابه الكريم القرآن الكريم فهو كتاب اكتملت فيه كل القيم والأخلاق والمعاملات الفاضلة والحث على العمل الصالح المنتج في الدنيا والآخرة وحثهم فيه على التدبر والتفكر الذي بلغ عدد صفحاته 600 صفحة فقط، لكن الطبع يغلب التطبع فالعربان عادوا لممارسة عاداتهم الكلامية حول ذلك الكتاب المكتمل التام وأبوا إلا أن يخرجوه عن مضمونه بابتكار علوم كلامية، فقد جعل البعض من تلك الصفحات الشاملة الكاملة التامة ملايين الصفحات فغيروا مضامين ذلك الكتاب وبذلك وقعوا تحت مضلة قول الله تعالى (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وكان التغيير للأسف الشديد في الضعف والهوان والتبعية حتى أصبحوا عالة على الأمم الأخرى بعد أن أشغلوا أنفسهم بالهياط.. والله من وراء القصد.