لم يتمكن أحد من المراقبين السياسيين لما يجري بين أمريكا والصين أن يقدم تفسيراً عقلانياً مقنعاً لسبب إرسال الصين بالون فوق أراضي الولايات المتحدة قال المسؤولون الأمريكيون أنه كان يتجسس عليهم. مع أن لدى الصين العديد من الأقمار الصناعية التي تتمتع بتكنولوجيات عالية تعمل في مجال التجسس على الأراضي الأمريكية؛ بدون أن تثير ضجة هوليوودية مثل التي قوبل بها البالون الصيني وهو يطير في سماء أمريكا والجميع يشاهده بالعين المجردة. هناك منافسة معلنة بين العملاق الصيني والعملاق الأمريكي، وهناك صعود صيني في مختلف المجالات الاقتصادية والتكنولوجية العسكرية يقلق الغرب بشكل عام وواشنطن بشكل خاص. لكن حكاية البالون غير مفهومة ما لم تكن جس نبض أمريكا ومعرفة كيف تكون ردود أفعالها في مثل هذه الحالة.
وبالرغم من كمية المعلومات الهائلة المتوفرة هذه الأيام عن اللاعبين الرئيسيين على الساحة الدولية، خاصة الصين وروسيا وأمريكا، إلا أن الكثيرين سارعوا لتفسير ما يحدث في أوكرانيا التي تدور فيها حرب يبذل فيها الأوكرانيون أرواحهم، ويقدم لهم الغرب المال والسلاح والتأييد المعنوي، (بلغ الدعم الغربي حتى الآن ما يزيد على التريليون دولار خلال حوالى سنة). وبالرغم عن ذلك، فإن مسار هذه الحرب لا يدلنا حتى الآن أين تنطلق وكيف سيتم حلها. علماً بأن روسيا ليست المنافس الوحيد للدول الغربية، بل هي الصين كما كرر الرؤساء الأمريكيون في خطاباتهم بأنها الخطر الأكبر الذي تثير القلق.
وبينما تتباهى أمريكا بتقدّمها التكنولوجي والتجاري، فإن الصين لم تترك لواشنطن الساحة لوحدها، بل تسعى للمنافسة والتفوق على الأمريكيين، لذا نتساءل كيف يسعى الأمريكيون إلى معالجة هذه المعضلة؟. في البداية سعت أمريكا إلى إبعاد بكين عن الاتحاد السوفيتي، وهو ما يبدو أنهم نجحوا فيه، حيث وقف الصينيون يتفرجون على انهيار الاتحاد السوفيتي وبداية نشوء روسيا الاتحادية الحالية بدون تقديم أي دعم لموسكو. ثم طوروا استراتيجيتهم بالسعي لجعل الصين جزءاً من المنظومة العالمية، وشجعوها على الدخول في منظمة التجارة العالمية، وتوسَّعوا في فتح المصانع الأمريكية داخل الصين، واستثمروا مبالغ ضخمة فيها. إلا أن الروح القومية الصينية كانت أقوى من الإغراء الرأسمالي. وهم يقلبون الآن مختلف الاحتمالات في الوقت الذي أدخل الروس أنفسهم في حرب أوكرانيا، والتي أصبحت مختبراً لعدة نظريات. ويقول البعض إن ما يدور في أوكرانيا، التي هي جزءاً من أوروبا، قد يتم حلها باتفاق مشابه لما كان يوصف بصلح وستفاليا (عام 1864)، الذي أنهى حرب ثلاثين سنة (في الإمبراطورية الرومانية المقدسة)، وحرب الثمانين عاماً بين إسبانيا ودولة المقاطعات السبع المتخصصة، والتي اعتبرت أول اتفاقية دبلوماسية في العصر الحديث، وأرست نظاماً جديداً في أوروبا الوسطى والغربية مبنياً على مبدأ سيادة الدول.
إلا أن ما يدور الآن هو صراع عالمي ليس في أوروبا لوحدها، وإنما يشمل أجزاءً كبيرة في آسيا وغيرها. ولا يعتمد على قبول أوروبا وروسيا اتفاقية صلح أو سلام، بل يتطلب التحاق الصين بمثل هذه الاتفاقية.
من النظريات المطروحة أن يتفق المتصارعون على بناء صلح قائم على القوة الاقتصادية، وليس بالضرورة العسكرية لكل طرف، (حسب الإحصائيات للعام الماضي 2022، فإن الاقتصاد الأمريكي هو أكبر اقتصاد في العالم بلغ حوالى 21 تريليون دولار، يليه الاقتصاد الصيني 14.7 تريليون ثم اليابان حوالى 5 تريليون، يليه الألماني بما يقرب من 4 تريليون)، وهناك نظرية أخرى أشار إليها هنري بولسون، وزير الخزانة السابق في عهد الرئيس باراك أوباما، نُشرت في مجلة «فورين أفيرز» أواخر الشهر الماضي يقول فيها: إن سياسة أمريكا تجاه الصين لا تعمل، وأن نتائجها سلبية على الولايات المتحدة، وأنها لم تنجح في فرض التحاق كل حلفائها إلى سياسة عزل الصين، مثل ألمانيا وفرنسا والسعودية وإندونيسيا والفلبين. ويبدو أن هناك نظرية قال بها اقتصاديون أمريكيون تقوم على أن الاقتصاد الأمريكي أصبح اقتصاد خدمات (تكنولوجيا عالية)، وبالتالي لا داعي للنظرية القائمة على إنتاج البضائع في الداخل، بل يتم التصنيع في الخارج باستخدام عمالة أرخص ونقلها للداخل.
ومن المتوقع أن يتم التوصل إلى حل خليط من النظريات المتعددة، عوضاً عن التهور في حرب كبيرة. ولن يكون الوصول إلى مثل هذا الحل قريباً، بل سيتم التهيئة له بعدة أساليب سيكون بعضها حروب بالوكالة.
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
