ينزعج الكثير من الناس في وقتنا الحاضر من اقتراب سن التقاعد النظامي عن العمل، وفاتهم جميعاً أن الخروج من دائرة العمل لا تعني بالضرورة الخروج من دائرة الحياة.
تقول إحدى الدراسات التي أجريت على مجموعة من الأفراد؛ أن دماغ الفرد في العادة يكون أكثر مرونة وقدرة على الإبداع والتميز مع مرور الوقت، وأثبتت الدراسات أيضاً أن الإبداع والتميز يزدادان ألقاً وبريقاً بعد تجاوز الفرد لسن الستين من العمر، فعلى سبيل المثال، وجد أن متوسط عمر الحائزين على جائزة نوبل العالمية هو (62) عاماً، ومتوسط عمر رؤساء أكبر (100) شركة على مستوى العالم هو (67) عاماً، ومتوسط عمر المصلحين في العالم هو (70) عاماً، ومتوسط عمر أفضل التربويين والأكاديميين في العالم هو (60) عاماً.
إن الشباب يبدأ بعد سن الستين من العمر وذلك وفقاً لمقولة الكاتب والروائي الأمريكي «هنري ميلر» الذي يجزم بأن للحياة أوجها كثيرة ومتنوعة تُظهر غصون العمر وتبدل الشيخوخة بالربيع.. والأمثلة على ذلك كثيرة ومتعددة، ولو بحثنا في هذا الأمر لوجدنا أن كتب التاريخ والسير مليئة بأسماء الكثير من العلماء والرواد الذين قدموا خدمات جليلة للبشرية وهم في مرحلة عمرية متأخرة، من بين هؤلاء الفيلسوف والمفكر الألماني وأحد ألمع فلاسفة عصر التنوير الأوروبي في القرن الثامن عشر «إيمانويل كانط» الذي أخرج ثلاثة من مؤلفاته العظيمة وهو في سن السبعين من العمر.. وكذلك الأكاديمي وعالم الأحياء الفرنسي «جان لامارك» الذي قام بكتابة مؤلفه العظيم «التاريخ الطبيعي للفقاريات» وهو في الثامنة والسبعين من العمر.
وأتم الفيلسوف والأديب الألماني «يوهان جوته» رائعته الشهيرة المسماة «فاوست» وهو قد تعدى الثمانين من العمر، كما ألف الموسيقي الإيطالي «جوزيبي فيردي» العديد من الأعمال الأوبرالية والمسرحية على غرار «عايدة وعطيل» وهو في الرابعة والسبعين من العمر.. ومن الملفت للنظر أن أهم وأعظم اعمال مكتشف المصباح الكهربائي العالم ورجل الأعمال الأمريكي «توماس أديسون» قام بها وهو في مراحل عمره المتأخرة.
كل هذه النماذج الناجحة والمتألقة من العلماء والمكتشفين والرواد إنما تؤكد أن النضج العقلي والخبرات المتراكمة لا يأتيان إلى الشخص إلا وهو في سنين عمره المتأخرة.. لا شك أن الخبرات المتراكمة والمهارات المكتسبة يمكن نقلها عن طريق هؤلاء الرجال العظام للأجيال القادمة، والتي قد لا تتاح لها فرصة تحصيل نفس المهارات والخبرات لاختلاف الوقت والظروف الحياتية، لذلك نرى أن الكثير من أساتذة الجامعات بعد التقاعد من يعمل أستاذاً غير متفرغ أو أستاذاً زائراً أو مستشاراً لجهة حكومية.