ذكية..
ذكية ورشيقة هي الفكرة، تليق بصاحبها الذكي اللماح والرشيق.. أعني هنا شاعرنا الأمير عبدالرحمن بن مساعد، وفكرته التي استحالت -خلال عامين من العمل- واقعاً نشاهده وتتردد أصداؤه في أرجاء الجزيرة العربية.. هذه الجزيرة الشاسعة المنبثقة من عمق الوجود لطالما رددت مع النابغة:
فإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلتُ أن المنتأى عنكَ واسعُ
وهامت طرباً مع الملك الضليل:
أغركِ مني أن حـبــكِ قـاتـلي
وأنك مهما تأمري القلب يفعلٍ
وهكذا قالها ابن مساعد -متحدثاً بألسنتنا جميعاً-: أغركِ جزيرة العرب أن حبكِ فاض بالشغاف، وسالت به وديان الروح وشعابها، وأننا هنا، اليوم، نكمل مسيرة أولئك الأوائل الذي حفروا صخر التاريخ، ليعلنوا وجودهم الشاعري على الأرض. «يسكن الإنسان شعرياً على الأرض»، هكذا وصف هايدقر الأمر، مشيراً إلى حياة الإنسان الخفيفة في هذا الوجود، مطارداً معنى الوجود، وجوهر الأشياء.
إن «معلقاتنا .. امتداد أمجاد» -في رأيي- عمل يحفر في العمق، ويحاول محاكاة هذا الجوهر الذي يعكسه التراث الشعري الخالد لأمة كانت الكلمة معجزة من معجزاتها.. تربط المسرحيات الغنائية -كما نرى- الماضي بالحاضر من خلال استحضار رموز الثقافة العربية الذين توجهم المجتمع نجوماً للثقافة والفصاحة وسحر البيان.
الجميل في هذا المشروع أنه يستثمر بعداً ثقافياً ثقيلاً، وإرثاً تمتد جذوره في المكان والزمان مثل وتدٍ، في مناسبة ثقافية ووطنية تتمثل صدى التأسيس.. والتأسيس بكل ما يشير إليه من رسوخ في المكان، وإنجاز الإنسان الذي أعلن عن بقائه في هذه الأرض خلال قرون متتاليات، يشكّل كيانها الحالي مملكةً للعطاء والثقافة والأخلاق، مملكةً تستمد من تراثها أصالته وشموخه ومثابرته، وترى في حاضرها محطةً في رحلة عزمٍ ومثابرة وتقدمٍ لأبنائها وللبشرية جمعاء.
في بيانه الذي نشره سمو الأمير في حساباته قال: «منذ ستة عشر قرناً أرّخ الشعر لجزيرة العرب نواحيها وقصصها وأيامها الكبرى، وما تزال الرسوم التي تغنى بها شعراء المعلقات حتى اليوم شمّاء في مدن السعودية وبواديها وصحاريها، تسمى بأسمائها وتدل على الامتداد الحضاري المهيب لهذه الأرض ولهذه الأمة».
ظلت الأماكن حيةً عبر التاريخ، لم تمت، ولم تدرس، ولم تصبح كباقي الوشم في طاهر اليدِ، وهي اليوم أماكن ترفل في نعيم انعطافة تاريخية مشعة، انعطافة رسم ملامحها الإمام محمد بن سعود قبل ثلاثة قرون، وسكّ حدودها الملك عبدالعزيز، وها هي تمخر طريقها في حضارة اليوم بقيادة ابنه الملك سلمان وحفيده الملهم محمد بن سلمان.. «إننا معكم نعيش أمانيكم وأحلامكم»، قالها المؤسس يوماً، وابنه سلمان وحفيده محمد يعملان على تحقيق الأحلام وبناء مستقبل مليء بأجمل الإنجازات.
لا يزال شعراء المعلقات معنا حتى اليوم؛ زهير ينظر لنا بحكمة وتعجب، والحارث بن حلّزة يتبختر مبتهجاً في الجوار، لأن ناقته تحب بعيرنا، أما لبيد فاختار أن يقف على رأس ديراب منشداً:
«أبـونا أبوكــم والأواصــر بينــنا
ولن يعدم المعروف خُفًّا ومَنْسِمًا
الفرقُ -ربما- أن النابغة، وقد أنهى أجمل اعتذارياته للنعمان بن المنذر لن يضطر أن يقطع الفيافي والمهامه المتوحشة، فدونه القطار وشبكة الطرقات الحديثة، يرافقه الأمان وتحفُّهُ الطمأنينة، ولن يكون له من همٍ إلا رضا المَلكِ عليه، وذكرى نصيف المتجردة وهو يسقط فيسّاقط قلبه إثره.
«معلقاتنا.. امتداد أمجاد»، فكرة ذكية، وإنتاج سعودي مبهج.. يحق لنا أن نفخر به، ونحتفي بمبدعه الشاعر، وبرفاقه الشعراء السعوديين، أولئك الذين صافحوا المعنى في دفء نجد، وتسلّموا راية المجاز.. من أجا وسلمى.. ليغرسوها في الحجاز.
«معلقاتنا»: أصلها ثابت.. وامتدادها وطنٌ في عنان السماء
تاريخ النشر: 15 فبراير 2023 22:44 KSA
A A