المتتبع لمقولات العقاد المبثوثة في كُتبه ودواوينه الشعرية، يلحظ بجلاء أنه يجعل للشعر وظيفة جليلة يُقدّمها الشاعر إلى الناس، فهو صاحب صورة نفسية، ووظيفته كما يحدّدها أن يكون صاحب صور ينقلها إلى نفوسهم، وليست وظيفته أن يلفّق لهم تشكيلات المعنى، كما يلفّق تشكيلات الصور المبعثرة يلهو بها الأطفال بضمّ بعض أجزائها، وتغيير أشكالها والإتيان بها على أوضاع لا نهاية لها، ولو لم يكن من وراء ذلك فن ولا تصوير.
إنّ الشعر لازم للإنسان الناطق ما دام ينطق ويعقل ويترقّى بالنطق في معارج الكمال ومعارض الجمال.. فإذا قلنا لك أَحْبب الشعر فكأنّما نقول لك عش، وإذا قلنا لك إنّ أمة أخذت تطرب للشعر فكأنّما نقول إنّها أخذت تطرب للحياة.
لذلك كثيرًا ما يربط العقاد ما بين الشعر من جهة، والحياة من جهة أخرى؛ لأنّ الحياة والأدب ومنه الشعر شيئان نسيجهما من مادة واحدة، فإذا كانت الحياة شعورًا يتملاّه الإنسان في نفسه ويتأمل آثاره في الكون؛ فإنّ الأدب هو ذلك الشعور ممثلاً في القالب الذي يلائمه من الكلام.
فليس الشعر اعتساف التشبيهات والخواطر واختلاف الأفكار والتصورات، ويكفي أن يشعر الشاعر ألمه دون أن يقرن ذلك بتشبيه فراق أو كناية بعيدة منتزعة من أبعد المناسبات، أو أغرب التّمحُلات.. والكلام قد يكون في الذروة العليا من البلاغة الشعرية وليس فيه خيال شارد ولا دمعة ولا كلمة ملفوفة ولا معنى مستكره.
ويرى العقاد أنّ الشعر لا يعوّل على حماقة الوصف التي شغل بها المقلّدون زمنًا طويلاً ظنًّا أنّهم يرتقون إلى ذروة الشعر لظنّهم كلما ارتقوا إلى ذروة التصوير والتشبيه بالمحسوسات، وما دروا أنّ التصوير إنّما هو من عمل النفس المركّبة من خيالٍ وتصويرٍ وشعور.
أمَّا وظيفة الشِّعر الجوهريّة عنده، فهي ما كانت مصحوبةً بالطبيعة الحيّة، والإحساس البالغ، والذّخيرة النّفسيّة التي تتطلّب التّعبير والافتتان فيه؛ فالإحساس هو الذّهب المُودع في خزانة النّفس، وهو الثّروة الشّعرية التي يُقاس بها سراة الكلام.