لا يتدخل الإنسان في نشأته وترعرعه، بل تأخذ المقادير المسطورة في اللوح المحفوظ طريقها في التنزّل بقدرها المحتوم، لتتدخل العوامل الدنيوية لتنفيذ ما خُطِّ في القدر، فلا يملك المرء دفعاً لقدر، أو حيدة عن مسطور أو استكثار من مقدور، وإنما هي خطوات كتبت عليه «ومن كتبت عليه خطى مشاها»، ألا يبدو هذا قريباً من الفلسفة العميقة لتلك العبارة البسيطة التي اعتاد سائقو الشاحنات كتابتها في مؤخرات شاحناتهم، عبارة لبقة وواضحة تقول:
على كف القدر نمشي
ولا ندري عن المكتوب!؟
أخذ القدر يمشي على أسرتي حين هاجرت من مدينة نجدية حاضرة تسمى «بريدة» إلى المدينة المنيرة -المكان لا الجريدة- على ساكن ثراها أزكى صلاة وأشرف سلام.
كان صاحب السطور -حين ذاك في المهد صبيًا- لم يغادر الخامسة من عمره، لذا بعد هذا العمر يمكن اعتبار سكناي بالمدينة أفضل قرار اتخذته الأسرة عبر تاريخها المجيد، وأقول (المجيد) مازحًا.
نثر الطفل طفولته في واقع حارة (المصانع، وحي الأحامدة، والسيح، وقباء)، ثم تطور حتى انتهى من جامعة انبثقت من أو عن على خلاف بين النحويين نفس المدينة!
ألا ما أجمل أن تعيش في طيبة الطيبة، إنها الأرض المباركة التي دل الحديث النبوي الشريف بأنها أحب البلاد إلى الرب جل وعز.. ثقة طمأنينة تتسرب إلى حياتك وأنت في هذه الطيبة المنيرة، أهلها موطني الأكتاف يألفون ويؤلفون، مباسمهم تحمل الصدقات ابتساماً، شيء ما يعيدك إليها كلما لجت الخطوات في دروب الحياة.
بعد هذا العمر، ها هي نعمة سكنى المدينة المنيرة لا تعد ولا تحصى وها هو صاحب السطور حين كان يعيش في آخر الغرب، في (كارديف)، وعندما يقول لأي مسلم هنا أو عربي بأنه من هذه المدينة النبوية الطيبة، يأخذ الآخرون بالتحديق فيه، والتدقيق في ملامحه لعلهم يرون في لون بشرته، أو شكل عينيه ما يطفئ شوقهم، ويخفف ولعهم لهذه البقعة التي تهفو إليها الأفئدة والأبصار ويتذكر صاحب السطور بكثير من الاعتزاز أن أصحاب الخدمات العامة هنا وبالذات المطاعم يبادرون بالتنازل عن استحقاقاتهم المالية قائلين بفرح كبير (خذها عشان الحبيب، اللهم صلي وسلم وبارك عليه).
آه... ما أجمل أن تعيش على لذة الذكرى الحسنة والسمعة المبهجة.. وهذه إحدى نعم السكنى بالمدينة المنيرة التي لا تعد ولا تحصى.
فتأمل هذا الحب الفياض، الذي يبذلونه لك وأعينهم تكاد تفيض دمعًا فقط لأنك من مدينة حبيبهم.. كأنهم يقرؤون سطور المدينة في محياك كأنهم يتنسمون أريجها من الرئتين اللتان تنشفنا عبيرها يومًا.
إننا أمة مجبولة على الحبّ، مفطورة على التسامح، فمن أين جاء غلاظ القلوب هؤلاء الذين أشاعوا ثقافة القتل والترويع والإرهاب؟!
وعلى ذكر المحبة وإكرامك تقديرًا لمن تحب.. أتذكر أنني قلت للروائي الكبير الطيب صالح: (أستاذي.. ألا ترى أن بعض لحم أكتافي من خيرات الله ثم من خيراتك)، فقال على الفور (كيف ذلك يا أحمد، وأنا لا أعرفك إلا منذ سنوات بسيطة؟!).
فقلت له: المسألة ببساطة إنني كلّما دخلت مطعمًا يعمل فيه سوادنيون -جمع سوداني- قلت لهم: أنا صديق الطيب صالح، يقولون فورًا: (خلي الحساب علينا عشان خاطر عيون أستاذنا الكبير الطيب صالح).
حسنا ماذا بقي؟
بقي القول: اللهم أدم المحبة علينا، واحفظ لنا هذا الوطن العظيم المتمدد من القلب إلى القلب.