هناك حدّ ما، بين الرقة من جهة، والخشونة من جهة ثانية وخاصة في شعر الغزل، فمن الوهم الاعتقاد بأن الرقة هي الصفة الأولى للشعر كله، أو هي مزيته على النثر والكتابة والمباحث العقلية، وأن شعر الغزل على الخصوص ينبغي أن يكون مُفْرطًا في رقته بعيدًا عن الخشونة وعن كل ما يذكر السامع بالعنف والقوة، فلا يحسب من شعراء الغزل المجيدين إلا من كان ظريف النسيب، خافت الصوت الوجيب -كما يشير العقاد- مكثرًا من الشكاية والنحيب، فإن بَدَرتْ منه كلمة جامحة، وأفلتت من وقدة صدره نفثة لافحة، فليس ذلك بغزل، وليس الشاعر بمطبوع على العشق ولا بمدرك على العواطف؛ ولكنه دخيل في هذه الصناعة متكلف لها؛ لأن ذلك مرض من أمراض المزاج وضعف في الأخلاق وسخف في مدارك الفكر، وإذا دل على هذه الخلال فقد دل على ما يلازمها من سقوط الهمم وخبث الطباع وأعراض التأخر والفتور في الأمم؛ لأن النفس التي تحس الحياة حقَ الإحساس وتجاري الطبيعة في قوانينها ومقاصدها لا يمكن أنْ تجهل العشق هذا الجهل ولا تخطئ في وصف التعبير عنه إلى هذا الحد.
يتساءل العقاد: لماذا انفراد الرجال بالغزل ولم تنفرد به النساء إن كان مصدره الرقة واللين، وكان براء من العنف والقسوة والخشونة؟ ولماذا يُباح للرجل أن يطلب المرأة ويُحْمد منه الإلحاح في طلبها، ولا يباح لها أن تطلبه ولا يحمد منها أن تستجيب لأول دعوة منه؟
إنَّ الرجل لا يستأثر بذلك عبثاً؛ ولكن لأنه أقوى عاطفة وأقدر على التغلب برغبته من المرأة، ولهذا السبب يستأثر في أول الأمر بالزينة والحلي ثم شاركته المرأة فيها فانفرد دونها بالكشوط والندوب؛ لأنها شارة الأيْد والبسالة، ولهذا استأثر بالنداء على المرأة واستدعائها إليه بالغناء الصوتي أو الغناء المقسم بالحروف.
فالعشق في طبيعته الأولى بعيد عن الرفق والسلاسة، وإنما هو شواظ لاذع يلقف دخانه بناره، ويلتهب شوقًا إلى وقوده، فإن أصابه خمد وعاد الشاعر يترنم بهناءة نفسه، ويغتبط بالراحة من سورة طبعه، وإن لم يصب وقودًا كان نقمة لا تطاق.. وأي رقة في قول المجنون:
كأن فؤادي في مخالبِ طائرٍ
إذا ذكرت ليلى يشد به قبضا
كأن فجاجَ الأرضِ حلقةُ خاتمٍ
علي فما تزداد طولاً ولا عرضا
يعلق العقاد بقول: إن قلب السامع لينقبض، وإن صدره ليخرج لهذا الوصف، ومع هذا أي شعر أبرع من هذا الشعر، وأي شاعر أطبع وأعشق من المجنون؟ وليس العشق الصادق، حين يشب أواره وتتأزم حلقاته، بالعاطفة التي يود صاحبها دوامها ويستريح إلى مناجاتها، كلا وإنما هو غمة مطبقة بود المبتلى بها لو تنقضي لساعتها، ويقوم في نفسه عراك لا تهدأ ثائرته ولا يهنأ بالغلبة فيه؛ لأنه هو الغالب وهو المغلوب، وكأنما ينزع نفسه من نفسه فيضيق ذرعًا ويغوث من كرب هذا النزاع، نزاع الحيرة التي يقول فيها المجنون:
فو الله ما في القربِ لي منك راحة
ولا البعد يسليني ولا أنا صابر
والله ما أدري بأية حيلةٍ
وأي مرام أو خِطار أُخاطر