تعود علاقة العقاد بأبي العلاء المعري القرائية إلى بداياته الأولى في مضمار الحرف الأدبي والنقدي، حيث نجد العقاد يعرض بعض آراء المعري الفلسفية في العقيدة والحياة، وعن مبدأ النشوء والارتقاء، متَّكئًا على بعض النصوص الشعرية، جمعها لاحقًا في كتابه: "الفصول" عام 1912م، تحت عنوان "نظرات في فلسفة المعري"، ولعلَّ تلك المقالات تُعدُّ النواة الأولى نحو مشروع أكبر، وهو كتابه "رجعة أبي العلاء".
وأول ما يطلعنا به العقاد في هذا الكتاب، ذلك الحديث المتخيَّل حول رحيل أبي العلاء من ناحية، وموقف بعض المثقفين السوريين من ناحية ثانية، حينما أرادوا أن يكرِّموا المعري في ذكراه، ببناء ما سمَّاه العقاد بـ(تابوت) على قبره؛ بمناسبة ذكرى ميلاده الألف.. والحوار المتخيَّل الذي أقامه العقاد يحمل قدرًا عاليًا من السخرية من قرار السوريين، نظرًا لمكانة فهم المعري للكون، وفلسفته للحياة؛ فضلًا عن شخصيته التي اتَّسمت بالوقار، والزهد، والكبرياء.
ثم تبدأ الرحلة المتخيَّلة التي بطلها المعري من جهة، والراوي= العقاد من جهة ثانية، مؤكِّدًا رفض أبي العلاء المحتمل (لو كان حيًّا) لفكرة إقامة تابوت على قبره، مُسقِطًا العديد من الأبيات التي قالها المعري في فلسفة الزهد؛ بحثًا عن منزل تحت الثرى لا فوقه.
يقول العقاد: "فيضحك الشيخ، ويتفسح للحديث، ويجري معهم في مجراهم، فيقول: لا يغرنَّكم يا أبنائي أنني أزهد في المديح، وأنني أسكن إلى الزهد فيه وفي المجد والسلطان، فيما أبرِّئ نفسي من كبرياء، وما أزعم أني اخترت العزلة والفاقة عن صغر في المطامع، أو قناعة بالحط الوضيع؛ ولكنَّني لا أرى لأحدٍ عيشًا في هذه الدنيا إلَّا أنْ يسودها أو يستخف بها ويعرض عنها:
ذر الدنيا إذا لمْ تحظَ منهَا
وكنْ فيهَا كثيرًا أو قليلًا
وأصبحْ واحد الرجلين إمَّا:
مَليكًا في المَعَاشر أو أبيلًا
هنا يأتي دور العقاد متحدِّثًا بلسان أبي العلاء المعري: "وما أُتيح لي أن أصبح مليكًا في المعاشر، فأصبحت باختياري راهبًا متبتلًا، أعرض عن الدنيا ولا أريها أنها هي التي أعرضت عني وبخست حقي".
والعقاد لا يخاتلنا، فهو أَبان أنَّ حوار المعري متخيَّل، وأنَّه لم يقل هذا الكلام؛ وإنَّما استقاه من مواقفه وأشعاره وبنى عليهما، راسمًا للمعري صورة حياة فحواها أنَّه لو خُيِّر في أمرِ وضع تابوت له على قبره لهزئ بمَن يفكِّرون بهذا الأمر؛ لتعارضه مع فلسفته وملامحه وشخصيته، وفي هذا السياق يقول العقاد: "تمثَّلتُ هذا الحديث بين شيخ المعرة وبعثة الحكومة السورية إليه، وأخال أنني على صواب حين أزعم أن الشيخ في طليعة الحكماء الذين لا يغيِّرون ما قالوه في هذا المعنى بعد آلاف السنين".
وللحديث تتمة،،،