يطل علينا شهر البركات، فيبتسم الكون لمقدمه، وترتدي النفوس المؤمنة له أبهى حلل السكينة والغبطة، يتغير وجه الزمان والمكان؛ هذا ليس مجرد تعبير مجازي، فالزمان يعيد ترتيب تفاصيله وفقاً لساعة رمضان؛ الغروب الجميل يصبح أجمل، وانتظاره يصبح أكثر شاعرية وطهراً: تميل القلوب للطمأنينة، وتلهج الألسن بذكر الله، وتتحد حركة المرور في انسيابية محكمة: (من المطبخ.. وإليه طبعاً)..
كذلك يكون المساء.. جموع المصلين يحتشدون في المساجد للصلاة والذكر، ولساعات الفجر نصيبها من الاحتدام أيضاً، تكتظ بالصلوات والتسبيح، والتخطيط للسحور وبركته... والمكان يحتضن كل ذلك بترحاب وسعادة، تكتظ بيوت الوالدين بالأبناء وأبناء الأبناء، وتطرب بيوت الله بترتيل المصلين والذاكرين، قبل وبعد أن تمتد موائد المحسنين للأحبة من إخواننا المغتربين عن أهاليهم في البلاد البعيدة.
لرمضان شفرة اجتماعية مختلفة تماماً، تكبر النفوس حتى تتعاظم عن الصغائر؛ عن الخلافات الأسرية، والضغائن والأحقاد الدنيوية، يبادر المتقاطعون إلى العودة لبعضهم وفقاً للتوجيه النبوي الكريم: (وخيرهما الذي يبدأ بالسلام)، ويتواصل الأرحام، أو أحسبهم كذلك.. يحرص المؤمنون أن تشع قلوبهم وقلوب من يحبون بالتسامح والود؛ فرمضان فرصة لنتذكر من نحن؟ ولماذا خلقنا؟ وما هي خاتمتنا؟
يشدني في رمضان كل عام مقدار التكافل الاجتماعي العجيب، وكأني بالناس يتفقون على ميثاق موحد فيما بينهم، ميثاقٍ يحدد واجباتهم على أنفسهم ومسؤولياتهم تجاه مجتمعهم.. فتتوالى رسائل التهنئة ورسائل النصح والتذكير، وتحتشد أجهزتنا بمقاطع المحاضرات المتعلقة بفضل رمضان وما يشرع فيه من عبادات، وبعبارات التحفيز على فعل الخير في شهر الخير.. يتسابق الناس على الصدقات، وعلى صلة الأرحام، وعيادة المرضى، وباقي أعمال الخير.. تحل السكينة على الناس، فتهدأ نفوسهم ويكون التسامح شعارهم الحاسم مهما كانت الظروف.. في المساجد يحرص المصلون على نظافة المساجد، وعلى تبخيرها، وعدم تعكير صفوها أو تشتيت سمتها الروحاني، وإن شذ أحد عن هذا، تجد حس المسؤولية لدى الآخرين متقداً لتصحيح مساره وإعادته للطريق القويم، وتذكيره بحرمة الشهر وحرمة الزمان والمكان.
إنه ميثاق ضمني اجتماعي، يفوز رمضان الخيرات بحقوقه الحصرية كل عام.
غير أني -قبل أن أختم- مضطر أن أسأل.. كيف؟ ولماذا؟
أنا أرى في رمضان فرصة سنوية لتذكير الناس بما يجب أن يكونوا عليه، أراه نموذجاً ربانياً يحتذيه الناس في باقي شهور العام.. أعتقد أن الصورة التي يرسمها المجتمع في رمضان ستكتمل لو امتدت لغير رمضان.. يعلمنا رمضان أن نتفق.. أن نتفق على التسامح، على الصبر وتحمل بعضنا البعض، على المسؤولية الاجتماعية، على صلة الأرحام، على المبادرة بالخير، وقبل ذلك كله يعلمنا رمضان أن نتفق على النظام.. نظام رمضان.. فلماذا يصعب على مجتمعنا أن يعمم تجربة رمضان على باقي أشهر العام!! يا له من سؤال..!!