تكلمت في المقال السابق عن أيام رمضان التي عشناها - ونحن في مرحلة ما قبل التمييز - في شارع حمزة بن عبدالمطلب. بعدها انتقل سكن الوالد - رحمه الله - إلى مدخل دحلة الولايا، المتفرع من شارع إبراهيم الخليل، والذي يبعد بأقل من ألف وخمسمئة متر عن الحرم الشريف. وقتها كنت في بداية مرحلة التمييز (مرحلة المدرسة). يبدأ يومنا بعد أداء صلاة الفجر في المسجد الحرام مع الوالد - رحمه الله -. وبعد العودة للمنزل نستعد للذهاب للمدرسة بعد أخذ وقت من الراحة، في تلك الفترة من شهر رمضان كنا نذهب للمدرسة الناصرية الابتدائية الواقعة في عمارة العنقاوي في سوق البرنو. درست السنة الأولى والثانية فيها، ثم انتقلت المدرسة إلى مبنى يقع في شارع الهجرة، في دوره الأرضي سوق خضار، فكنا نسمع ضجيج الباعة ورواد السوق ونحن في مقاعد الدراسة. بعد العودة من المدرسة أذهب لمساعدة الوالد في مقهاه الواقع في شارع إبراهيم الخليل (أمام زقاق الجاوة وأنا في سن الثامنة من عمري. كنا نصلي العصر في مسجد مالم بخاري - (مالم تعني باللغة الهوساوية عالم)- الواقع في الزقاق الرابط بين شارع إبراهيم الخليل وشارع المنشية، أو في مسجد مالم (تعالى) القريب من المقهى، لم أكن في عمر من يجيد العمل في تلك الفترة، غير أن الوالد - رحمه الله - كان يرغب في تدريبي وإعطائي دروساً في استغلال الوقت فيما هو مفيد. بعد تناول طعام الإفطار نستعد بمرافقة الوالد للذهاب للمسجد الحرام لأداء صلاة العشاء والتراويح. بعد الصلاة أذهب مع الوالد في بعض الأيام ومعه بعض أصدقائه إلى منطقة سوق الليل لتناول الكبدة الجملي الطازجة من محل عم (إدريس كنو)، أو من محل عم (حامد منصور) في الحلقة بجوار البريد، وبعدها نذهب مع الوالد وأصدقائه لتناول الشاهي والمرطبات في مقهى عم عباس أبوفراح، الواقعة أمام الحرم المكي الشريف. كان يوم الجمعة فقط هو يوم الإجازة الأسبوعية في تلك الأيام. في هذا اليوم كنتُ أذهب صباحاً لشراء مستلزمات البيت من المشية في شارع الهجرة: اللحم من محل الجزار عم (حبيب كنوي)، أو محل الجزار عم (منصور حجار)، والخضروات من محل (سلمان الحربي)، الواردة من بساتين عم (علي أبوطربوش)، وعم (منصور الشنب)، وعم (مصطفى الهيطلي) في وقف البوقري، كل ذلك بمرافقة شقيق الوالد عمي (محمد عساس) - رحمه الله-. كان هدف الوالد من كل ذلك تدريبي وأنا في هذه السن على البيع والشراء.
بعد صلاة التراويح كانت فترة الترفيه لنا - إذا جاز التعبير - كنا نقضيها إما في مشاهدة دوري كرة القدم الرمضاني في الحي، أو في لعب بعض الألعاب، مثل لعبة الورق (الباصرة) وغيرها. كل تلك الألعاب تقام بجوار المنزل وتحت أعين الوالد - رحمه الله - والجيران. هذا البرنامج المسائي يستمر إلى نهاية يوم العشرين من رمضان، ثم يتوقف لأداء صلاة التهجد التي تبدأ من ليلة الواحد والعشرين من رمضان، وتستمر إلى نهاية الشهر.
في هذه العشرة كنا نذهب مع الوالد بعد الإفطار مباشرةً للحرم المكي الشريف، ولا نعود إلى بعد انتهاء صلاة العشاء والتراويح والتهجد. وبعد تناول السحور في المنزل، نعود لأداء صلاة الفجر في المسجد الحرام، وهكذا لبقية الشهر.
هكذا كنا نقضي أيام الشهر الكريم في تلك الأيام، رحم الله والدي والمسلمين أجمعين، وأسكنهم جناته جنات النعيم.