يرى العقَّاد أنَّ أدب اللياقة هو المفتاح المناسب لفهم شعر المعرِّي، ولعلَّنا نفهم ذلك جليًّا من قول العقَّاد: «إنَّ أبا العلاء، وسائر أبناء البيئة سواءٌ، فإنَّه لأشدُّ تحرُّجًا من كثيرين، وإنَّه ليحظر على نفسه ما يبيحه آخرون، وإنَّه ليحسب الوقار جمالًا لا يدانيه جمال في الرجال».
ويحاول العقَّاد أنْ يربط ما بين أدب اللياقة وتربية المعرِّي ونشأته، فقد كان أبوه وأمُّه من ذوي الوجاهة والصَّلاح، وكان آل أبيه يتوارثون القضاء في بلده، ويعيشون بين النَّاس كما يعيش رجال الدِّين ورجال الحُكم على شعائر المروءة والتَّعفف والأنفة من غشيان مواقع الشُّبهات، وعلى الهيبة التي لا غنى عنها لمَن يسومون الرَّعية باسم الله واسم السُّلطان.
أمَّا سَمْتُ الوقار فيُرْجِعه العقَّاد إلى فَقْدِه بصره، «فإنَّ الضَّرير قد يصيبه السخر والملام لأمور يواقعها البصير ولا مَن يسخر به أو يلومه، وإنَّ البصير قد يمارس من الشَّهوات ما يأمن الفضيحة فيه، لأمانه من أنْ يطَّلع عليه أحدٌ غيره، وليس ذلك في مقدور الضَّرير: فإمَّا الفضيحة والعار، وإمَّا الزهد والوقار».
ولكنَّ العقَّاد لا يقف عند حدود ذلك؛ بل يحاول أنْ يبحث عن أسبابه وبواعثه، يقول العقَّاد: «ومرجعه إلى كبريائه وعزَّة نفسه.. فإنَّ الأعمى قد تهون عليه الفضيحة في سبيل الشهوة، إلَّا أنْ تكون له كبرياء تأبى له المهانة والابتذال، فيهون عليه فَقْد الشَّهوات واقتناء الكرامة».
ويؤكِّد العقَّاد على أنَّ ما حَرَّمَ المعرِّي طيِّبات هذه الدنيا إلَّا لقلَّة مؤاتاتها، وأنفته من أنْ يتبذل في طلبها ويخلَّ بوقارها واحتشامه في الأخذ بأسبابها والتَّصدي لشؤونها.. على أنَّه كم من لحظة قال فيها لنفسه:
أيأتي نبيٌّ يجعلُ الخمرَ طلقةً
فتحملُ شيئًا من همومَي وأحزانِي!
أو حينما قال في إخلاص وأسف:
تمنيتُ أنَّ الخمرَ حُلَّت لنشوةٍ
تجهلّني كيفَ اطمأنتْ بي الحَالِي
مقلٌّ من الأهلِينَ يُسْر وأسرة
كفَى حُزنًا مَا بينَ مشتٍ وإقلالِ!
وقبل أنْ يفيء إلى حلمِهِ فيقول:
وهيهاتَ لوْ حلَّت لمَا كنتُ شاربًا
مخففة في الحلمِ كفَّة ميزانِي
أو يقول:
لوْ كانتِ الخمرُ حِلًّا مَا سمحتُ بهَا
لنفسِيَ الدَّهرَ لا سرًّاً ولا علنًا
فأمَّا والخمرُ التي يشتهيها في (رسالة الغفران) فخمرُ الجنان التي أعدَّها اللهُ للصَّالحين من عباده، فلا حرجَ عليه أنْ يصفَ مجالسها ويتحدَّث بمناداتها ولا هو واجدٌ -إنْ تمنَّاها- مَن يلومه على هذا التَّمني أو يُلجئه إلى مثل ذلك لاستدراك السَّريع.
ويصعد بنا العقَّاد إلى أبعد من ذلك وهو يحول سَبْر أغوار المعرِّي النفسيَّة، إلى حيث امتناع المعرِّي عن الزواج.. فإذا أخذنا في سبْر حقائق الحياة بمسبار المعرِّي؛ فأيُّ باطلٍ أبطل من المجد؟ وأيُّ ضلال أضل من حبِّ النسل؟ كلُّ ما هنالك وهمٌ يتبعه وهمٌ، وحلمٌ تفيق منه على حلم، وأشواطٌ تبدأ وتُعاد، واجتهادٌ لا يؤدِّي إلى غناء واجتهاد:
ترى التَّشميرَ فيهَا كالتَّوانِي
وحرمانَ العطيَّةِ كالنَّجاحِ
ومَن تحتَ التُّرابِ كمَنْ عَلَاه
فلا تخْدعكَ أنفاسُ الرِّياحِ
ويأتي تعليق العقَّاد: «فما جدوى هذه القصص كلها؟ وما غايتها؟ وما الفرق بين الغاية فيها والبداية؟».
وللحديث تتمة،،،