يصدمنا العقاد من خلال منهجه في التحليل النّفسي، بنفي ملكات الخيال عن المعري، حيث يرى أنّ الخيال لم يكن من ملكات المعري التي أُشْتهر بها.. ولم يكن هو نفسه يحب أن يوصف بالقدرة عليه.. بل لعله كان يكره أن يُنسب إلى أهله ويراه منافياً للصّدق مخالفاً للأمانة في القول.. ويحسب المحاسن المتخيّلة من باطن الزّخرف ولغو الكلام، أما لماذا؟ فلأن المعري كان ينكر أن يصف شيئًا لا حقيقة له من الحسّ، فأبى على الشّعراء أن يتقوّلوا بما لا يعانون ويوصلوا إلى تحسين المنطق بالكذب وتزيينه بالغزل والحماسة.. ويعتذر من ضعف نظام اللزوميات باجتنابه غواية الزور فيها والتزامه الصّدق والبر.
في حين نجد طه حسين يعترض على ما قال به العقاد، واصفًا ملكة الخيال عند المعري بأنّها لا حدّ لها، متسائلاً: وما الخيال؟... إمّا إذا كان الخيال ملكة تمكّنُ الشاعر والكاتب من أن يخترع شيئًا من لا شيء أو يؤلّف شيئًا من أشياء لا ائتلاف بينها، فلم يكن أبو العلاء على حظٍّ من الخيال، لأنّه لم يخترع في رسالة الغفران شيئًا من لا شيء، ولم يؤلف بين متناقضات ولكنّا نعلم أنّ علماء النفس لا يسمون هذه الملكة خيالاً، وإنما يسمّونها وهمًا، وهم ينبئوننا أنّ الخيال لا يخترع شيئًا من لا شيء، وإنّما يستمدّ صوره ونتائجه من الأشياء الموجودة، يؤلف بينها تأليفًا غريبًا يبهر النّفس ويفتنها.. وإذا كانوا صادقين -ونحسبهم صادقين- فحظ أبي العلاء من الخيال في رسالة الغفران لا حدّ له.
وإذا ربطنا ما بين الخيال من حيث هو ملكة واستعداد وبين فَقْد البصر، أمكننا أن نقول بقدرته على التخيّيل، ثمّ إنّ النقد المنهجي في مفاهيمه وإجراءاته يربط بين الشعر والفكر، وبين الشعر والفلسفة للتّدليل على تميز شاعر من شاعر، فكيف بالعقاد ينحو هذا المنحى وشعر أبي العلاء لا يفتقر إلى هذا التميّز؟!
ثمّ تتوالى صدمات العقاد لنا، فهو من جانب يقدّم الثناء السّخي على (رسالة الغفران) وما تحمله من الطرافة وما تتمتع به من أسلوب ولفتات نقديّة، وفي المقابل نجده ينفي أن تكون وحيًّا شعريًّا يفتنّ بها الشعراء، أو أنها عمل من إعمال توليد الصّور وإلباس المعاني، وخلاصة رأيه أنّ رسالة الغفران نمط وحدها في آدابنا العريقة، وأسلوب شيّق ونسق طريف في النقد والرواية، وفكرة لبقة لا نعلم أن أحداً سبق المعري إليها... أمّا أن يُنظر إليها كأنّها نفحة من نفحات الوحي الشعري على مثال ما نعرف من القصائد الكبرى التي يفتنّ في تمثيلها الشعراء أو القصص التي يخترعونها اختراعًا أو ينظر إليها كأنها عملٌ من أعمال توليد الصّور وإلباس المعاني المجرّدة لباس المدركات المحسوسة، فليس ذلك حقاً وليس قولنا هذا غبن للمعري أو بخس لرسالة الغفران، كلا ولا هو ممّا يُغضب المعري أنْ يُقال هذا القول في رسالته.