من روائع السفر بالطائرة، الجلوس عند النافذة بمحاذاة الجناح، لمشاهدة روائع التغيُّرات الكثيرة المذهلة.. ومن الظواهر التي قد لا يُصدِّقها الناس، أن أيام زمان كانت محركات الطائرة المروحية المكبسية تُصدِر اللهب المكشوف الذي كان يُعلن عن صحة «عملية الاحتراق»، وكان يُضيئ أطراف الجناح ليلاً بنيران زرقاء اللون، تُشبه شعلة الدافور العملاق.
وبالرغم أن حرارة محركات الطائرات اليوم هي أعلى بكثير من محركات أيام زمان، إلا أن نيرانها مخفية بداخل غرف الاحتراق المخصصة لذلك في بطون المحركات المعقَّدة. وعندما نتأمَّل في موضوع النيران بجوانبها المختلفة، وبالذات احتراقها الداخلي المحكم، نجدها من أفضل الانعكاسات للحضارة والرقي.. تخيَّل كمية الحرق في مطابخنا يومياً، وستجد أن معظم نِعَم الغذاء؛ مقرونة بالنيران بأشكالها وألوانها المختلفة، علماً بأن بعضا منها قد تكون شديدة جداً، مثل ما يستخدم لقلي السمبوسك، وبعضها هادئة مثل تلك التي تستخدم لطبخ الفول المدمّس، وتسخين التميس، ولكن كلها جميلة في تطبيقاتها ومخرجاتها.
وتاريخ النيران يحتوي على العديد من الطرائف، منها: بعض المبادئ الخاطئة، ففي الأوساط العلمية، بدءاً من عام 1667، كان الاعتقاد «العلمي» السائد آنذاك هو سرها، الذي يكمن في وجود مادة اسمها «فلوجستون».. والفكر «العلمي» الراسخ آنذاك أن وجود تلك المادة بكميات محددة؛ كان هو أساس درجة اشتعال المادة، وويل لمن كان يُشكِّك في صحة الفكرة، مهما كانت مكانته العلمية.
وسقطت فكرة هذه المادة «النارية» كسقوط شرائط الفيديو والكاسيت، وسقوط حائط برلين، والبيجر في أيام معدودات.. وجاء ذلك عند اكتشاف المبدأ العلمي السليم أن الأوكسجين هو المسؤول عن الاحتراق.. ومن الطرائف أن استكشاف الأوكسجين لم يُنسب لعالم واحد، وإنما لمجموعة من العلماء الجبابرة، وفي مقدمتهم العالم الفرنسي «لافوازيه»، والعالم الإنجليزي «بريستلي»، والسويدي «شيل» في القرن الثامن عشر.
ومن العجائب أن المادة الأكثر اشتعالاً في العالم؛ هي خلطة بين عنصرين، يتَّسمان بالعنف في التفاعل بين كل العناصر؛ التي أكرمنا بها الله عز وجل.. عنصر الفلور، وهو الأشد تفاعلا في العالم، حيث يهاجم بطرق عنيفة جداً، ويليه الكلور.. وخلطتهما معاً ولَّدت إحدى أشد المواد اشتعالاً في التاريخ.
ففي عام 1930 قام العالمان الألمانيان «رف» و»كرج» بتطوير هذه الخلطة، باتحاد جزء فلور بثلاثة أجزاء كلور، ونتجت مادة ولَّعت في كل ما لمست، ومنها الزجاج، والرمال، وحتى في الماء.. كانت ولا تزال من أكثر المواد اشتعالاً، لدرجة أنها لم تصلح للاستخدام حتى في الأسلحة وفي الدفع الصاروخي.
وبدءا من الستينيات الميلادية، وبسبب انتشار المواد البلاستيكية الجديدة في حياتنا، ظهرت مخاطر جديدة للنيران، فأصبح التهديد الأكبر في كوارث الحرائق هو استنشاق المواد السامة التي انتشرت، ولا تزال تنتشر انتشاراً هائلاً.. الموضوع يكمن في أن تحول تلك المواد على درجة حرارة مرتفعة جداً يُصدِر العديد من المواد السامة التي لا نشعر بمخاطرها، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فهناك العديد من المواد التي تستخدم في الأثاث بداخل بيوتنا، أو في التغليف، أو حتى في الملابس، والتي تحتوي على «السم الهاري» بأشكاله وأنواعه، مثل عنصر الزرنيخ، أو عنصر الكروم، أو مادة السيانيد، أو المبيدات الحشرية، أو بعض أنواع الأصباغ.
* أمنيـــــة:
النيران من نعم الله المذهلة، وتوفيق الله في ترويضها هي من أعظم إنجازات التقنية.. أتمنى أن نُوفَّق في الاستعداد لمواجهة مخاطر النيران، ولله الحمد أن جهود الدفاع المدني، وكود البناء السعودي، وإدارات الأمن والسلامة في الجهات المختلفة تُطبِّق معايير الحماية الحديثة.. ولكن هناك حاجة مستمرة لتحديث وتقنين تلك الجهود برعاية الله، وهو من وراء القصد.