موضوعنا اليوم عن أغلى، وأسرع، وأعلى، معمل علمي.. هي محطة الفضاء الدولية التي تستطيع أن تراها بالعين المجردة وهي تشق طريقها في سماء المملكة بين كل حينٍ وآخر، علماً بأنها تأخذ لفة حول العالم كل تسعين دقيقة.. وبالرغم من حجمها الذي يعادل ملعب كرة قدم تقريباً، وكتلتها التي تزيد عن أربعمائة ألف كيلوجرام، إلا أنها تطير على ارتفاع يفوق المليون قدم، وبسرعة تبلغ حوالى ثمانية وعشرين ألف كيلومتر في الساعة.. يعني بالإمكان أن تغطي ما يعادل المسافة من جدة إلى مكة المكرمة في حوالى تسعة ثوانٍ فقط.. ومنذ بداية مشوارها منذ حوالى ربع قرن، لم تتوقف عن الالتفاف حول الأرض بمشيئة الله، وزارها حوالى 250 رائد فضاء، بمعدل حوالى ستة أشخاص في كل رحلة.. رجال ونساء من مختلف الجنسيات، طالعين نازلين لإجراء آلاف التجارب في مجالات مختلفة، في الكيمياء، والفيزياء، والطب، والصيدلة، والهندسة، والتصوير، وعلم الفلك، والطقس، والمواد، وغيرها من العلوم التطبيقية. وتاريخ المحطة يستحق وقفات تأمل لأنها تُمثِّل نقطة تحوُّل هائلة في عالم استكشاف الفضاء، والعلوم، والتقنية، والعلاقات الدولية أيضاً.
ولدت فكرة محطات الفضاء مع بداية رحلات الفضاء عام 1961 من عمالقة استكشاف الفضاء، وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.. كانت الفكرة هي إبقاء الرواد في الفضاء لمدة أطول من الرحلات «الاعتيادية» القصيرة، التي لم تتعدَّ مدتها الأسبوع الواحد.
وكالعادة، بدأ الموضوع «بعسكرة» المركبات، فطُوِّعت للاستخدامات العسكرية، وبالذات شغل «الدبابيس».. أي التجسس.
ولكن تم تحويلها لاحقاً لعالم الاستكشاف العلمي والتجارب، بالذات في بيئة انعدام الجاذبية. وبينما انصبّت جهود الولايات المتحدة على الوصول إلى القمر في حقبة الستينيات الميلادية، استثمر الاتحاد السوفيتي في تقنيات المحطات، فتم تشغيل محطات «ألماظ» في نهاية الستينيات، ثم «ساليوت»، ومعناها التحية، في السبعينيات، ثم «مير»، ومعناها السلام، في الثمانينيات، وفي عام 1975 تم تطوير أول برنامج مشترك بين القوتين العظمتين لتخفيف آثار الحرب الباردة، فاتحدت مجموعة مركبات فضائية بين الدولتين، وتوّجت في أكبر اتحاد بينهما، عندما اتحدت مركبة المكوك الأمريكية ومحطة «مير» الروسية في الفضاء الخارجي بتاريخ 29 يونيو 1995. وهنا تكوَّنت بعض التحديات الفنية والدبلوماسية بشأن اتحاد المركبات الأمريكية والسوفيتية في الفضاء الخارجي، من ناحية قياس الوحدات، واللغة، وتصميم تركيبات الأجزاء الميكانيكية. وتم التغلب على معظم التحديات عندما بدأ تشغيل المحطة الدولية في نوفمبر 2000 من قبل الولايات المتحدة، وروسيا، وكندا، واليابان، وأعضاء وكالة الفضاء الأوروبية.
وتحقق ذلك بتوفيق الله من خلال حوالى أربعين رحلة فضائية لنقل القطع وتركيبها في الفضاء. المشروع استغرق فترة عشر سنوات، وتكلفة ما يُعادل حوالى نصف تريليون ريال.
خلال حوالى ثلاثة أسابيع من اليوم بتوفيق الله، سيقوم الرائدان السعوديان علي القرني، وريانة البرناوي برحلة فضائية سعودية إلى محطة الفضائية الدولية.. وهذه ثاني رحلة للفضاء بعد مرور حوالى تسعة وثلاثين سنة على رحلة سمو الأمير سلطان بن سلمان على متن المكوك الفضائي «ديسكوفري». وكلا الرحلتين تتصفان بالطابع العلمي، ففيهما مجموعات من التجارب في مجالات علمية، وطبية، وهندسية، وسلوكية. وهذه التجارب من تصميم العقول السعودية.التجارب في رحلة الأمير سلطان كانت مصممة في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن من أساتذة سعوديين.. والتجارب في رحلة الرائدين علي وريانة ترعاها الهيئة العامة للفضاء، ووزارة الدفاع، ووزارة الرياضة، ومستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث، وغيرها من الجهات الوطنية الرائدة.. كلها إبداعية، وكلها مهمة.
* أمنيــــــــة:
المحطة الفضائية الدولية في خريف عمرها الآن، فالمخطط أن يتم تقاعدها خلال الثلاث سنوات القادمة، وإن شاء الله سيترك الوجود السعودي على المحطة من خلال رحلة الرائدين خلال الشهر القادم بصمة علمية مميزة. أتمنى أن ندرك أن الرحلات السعودية للفضاء منذ 39 عاماً والقادمة بتوفيق الله، ليست رحلات سياحة فضائية، وإنما هي رحلات علمية متقنة، والمزيد عنها في مقالات قادمة إن شاء الله، وهو من وراء القصد.