لعلَّ من أقسى حوادث الدهر على الإنسانِ؛ أن يُغيِّبَ الموتُ أحداً ممن يحبُّ. فإذا تتابعَ فقدُ الأحبابِ والأقرانِ، كان ذلكَ مؤذناً للمرء بانقضاءِ عمرِهِ، فيذَّكَّرُ حين ذاك ويعتبرُ، وصدق الله حين يقول: (وما جعلنا لبشرٍ من قبلك الخلدَ أفإن مت فهم الخالدون) (الأنبياء 34)، وصدق إذْ يقول: (كل نفسٍ ذائقةُ الموتِ وإنما توفون أجوركم يوم القيامة) (آل عمران 185).
ومن عجائب الأخبار في هذا المعنى وعجيبها، ما وقعَ عند تأبينِ الشيخ «محمد عبده» رحمه الله، فقد وقف على قبره ستةٌ من الأعلامِ، يرثونه، ويعددون مناقبه، وهم بحسب ترتيبهم في الوقوف:
- الشيخ أحمد أبو خطوة.
- حسن عاصم بك.
- حسن عبدالرازق باشا الكبير.
- قاسم أمين.
- حفني ناصف.
- حافظ إبراهيم.
وكان أولهم رثاءً أولهم وفاةً، ثم لحق به ثانيهم، ثم حان أجل الثالث، ثم عرجت المنية على الرابع!.
حدث هذا كله في ثلاث سنوات، ولم يبق من الستة إلا الخامس «حفني ناصف»، والسادس «حافظ إبراهيم».
وهنا وقر في قلب «حفني ناصف» أن الدّوْرَ حلّ عليه، وأن منيته قد قربت على هذا الترتيب قبل «حافظ»، فكتب إلى «حافظ إبراهيم» أبياتاً، اشتهرت وقتها على كل لسان، جاء فيها:
أتذكر إذ كنّا على القبر ستةً
نُعدد آثار الإمام ونندبُ
وقفنا بترتيبٍ وقد دَبّ بيننا
مماتٌ على وفق الرثاء مرتبُ
أبو خطوةٍ ولّى وقَفّاه عاصمٌ
وجاء لعبدالرازق الموت يطلبُ
فلبّى وغابت بعده شمس قاسمٍ
وعما قليلٍ شمس مَحياي تغربُ
فلا تخش هلكاً ما حييتُ فإن أمُت
فما أنت إلا خائفٌ تترقبُ
فلم يلبث «حفني» أن مات بعد سنواتٍ! ولم يكن عجيباً أن ينتظر «حافظ» الموت بعد ذلك، فرثى نفسه قائلاً:
آذَنت شمس حياتي بمغيبِ
ودنا المنهل يا نفس فطيبي
قد مضى حفني وهذا يومنا
يتدانى فاستثيبي وأنيبي
قد وقفنا ستةً نبكي على
عالم المشرق في يوم عصيبِ
وقف الخمسة قبلي فمضوا
هكذا قبلي وإني عن قريبِ
إلى آخر القصيدة وهي (43) بيتاً.
ثم مات «حافظ إبراهيم»!.
هكذا مضى الصحبُ تباعاً، واحداً إثر واحدٍ، في ترتيبٍ عجيبٍ جرى به القدرُ، وأنا كلما ودعتُ من صحبي الكرامِ أحداً، أدركتُ أنَّ الأجلَ يدنو، وأن موت أحدهم كالإيذان بموتِ الآخرين.
أسأل الله الرحمة لمن ماتَ، وحسن الختامِ لمن بقي.