مكة المكرمة «أم القرى»، أول مدينة عرفها التاريخ بإرادة الله سبحانه وتعالى، حيث جعل فيها بيته كأول بيت وُضِعَ للناس كما قال تعالى في كتابه الكريم: «إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا..». ومنذ ذلك اليوم؛ ومكة هي مهوى الأفئدة، يأتي إليها سكان المعمورة من كل حدبٍ وصوب لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام، والذي ارتبط بالطواف بالكعبة، والسعي حول الصفا والمروة، والاعتمار وغيرها من الشعائر المقدسة، حيث جاءت دعوة سيدنا إبراهيم عليه السلام لتكمل معجزات وجود مكة في هذا الوادي الأقفر، فقال تعالى على لسان الخليل عليه السلام: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).
وبدعوة إبراهيم عليه السلام، صارت مكة حرماً آمناً، ومكان استيطان القبائل العربية منذ فجر التاريخ. ومنذ فجر التاريخ وحتى اليوم يفد إلى مكة الملايين من المسلمين ويتجمَّعون ليألفوا مجتمعاً سكانياُ فريداً من نوعه، يضم جاليات من أنحاء العالم، من مصر، والعراق، وتركيا، والحبشة، وبلاد الهند والسند، بل جنوب شرق آسيا، وجزر الهند الشرقية، بالإضافة إلى السكان الذين وُجِدُوا منذ ظهور الإسلام، فتألف مجتمعاً متجانساً بالقرب من المسجد الحرام، ووجود العلماء من مختلف المذاهب، وما كان يدرس في المسجد الحرام عزز من الثقافة الإسلامية في المجتمع. كما عضد اللحمة الوطنية دخول الملك عبدالعزيز لمكة، وإرساء مبادئ العدالة، وإعطاء الحقوق لأهالي مكة، مما ساهم في الانصهار الحضاري.
ولعل أبرز تلك الآثار هي: التقاليد والعادات المكية التي ظهرت ولا تزال تُمثِّل رمزاً من رموز الثقافة المكية، وخاصة في اللباس؛ فمن التراث المكي للنساء مثلاً، لبس الساري الهندي أو لبس الكرتة، أو البرنسيس في المناسبات الخاصة، ويتغطى الجسم بالثوب الفضفاض المطرز، وذا أزارير ذهبية، ومن أسفل منه يُلبَس السروال الطويل المشتغل، وهو للحشمة، لكي لا يظهر شيء من جسد المرأة.
وأما غطاء الرأس فهو المحرمة، ويُلَف بها شعر الرأس، ومن فوقها قطعة قماش أخرى تُسمَّى (الشمبر)، ومن فوق كل ذلك المدورة التي تلف الجميع.
ويرتدي الرجال الثوب الفضفاض، وتحته سروال طويل مشتغل من أطرافه. والعمامة على الرأس، وفوق الثوب حزام، وهو حزام كشميري، أو حزام خرساني.
ويلبس فوق الثوب ما يُعرف بالسديري. وهناك المصنف، وهو قطعة مستطيلة تُوضع على الكتف. أما على الرأس فيضعون الكوفية بشكلها الهرمي، وهي مطرزة بخيوط متلاصقة، ويلف حولها العمامة، وهي من أصول التراث الإسلامي.
وفي التاريخ الحديث، أشاد الملك عبدالله بن عبدالعزيز - رحمه الله تعالى - بأهالي مكة حين استقباله الأهالي بتاريخ 10 /10 /1426هـ في أول زيارة له لمكة، ومقابلته لهم بكل تواضع فقال: «الله يزيدكم من الخير».
وكذلك الملك سلمان بن عبدالعزيز - حفظه الله - عند زيارته لمكة، وتشرف أهاليها بالسلام عليه فقال: «يا زين لبس أهل مكة»، في إشارةٍ إلى أن اللباس المكي جزء أصيل من الموروث الوطني.
ومن الطقوس الجميلة، وخاصة في الأعياد، رقصة المزمار، يلعبها فريقان من الشباب، وهي من أنماط الفنون الأدائية الثقافية في الرقص والغناء الحجازي، والأهازيج الشعبية والتراث الفني، والتي أدرجتها السعودية في (اليونسكو) ضمن القائمة التمثيليّة للتراث الثقافي غير المادي للبشريّة عام 2016م.
أيضاً أطعمة أهالي مكة، هي من مختلف أنحاء العالم: فهناك مطاعم الرز البخاري، ومطاعم الأكل الجاوي، والمطاعم الهندية بمختلف النكهات «الكابلي والبرياني».. وغيرها من الأصناف، والمطاعم التركية، إضافةً إلى المطاعم العربية المختلفة، وحتى في المناسبات وفي المواسم مثل رمضان، ترى (السمبوسك والشوربة) هي أساس السفرة المكية، وكذلك في مناسبات المواليد، حلوى البتاسا والشريك.. وفي إفطار العيد، الدبيازة وهريسة الملوخية.
ومع هذا التنوع، تجد الجميع يقبل عليه. وأما العادات والتقاليد والألعاب عموماً فهي شائعة، وتمارس من أبناء مكة جميعهم. وستظل مكة ملتقى إسلامياً يفد إليه الملايين كل عام، لوجود المشاعر المقدسة، وأداء المسلمين للحج والعمرة، فهي قبلتهم ومهوى أفئدتهم.