من المضحكات المبكيات -في الآن- أنْ يتربَّع أحدهم؛ ليقول كقول «النائحة» -مع سبق الإصرار- على أنّ ما يقول به «شعرًا»، وما هو -والله- بشعر، ولا قَارب الشعر، ولا يربطه أيّ رابط بشعر أو حتى «مشعور».
فما الشعر إذًا؟
سؤال عريض، والإجابة عنه لا تأخذ في مقاييس النقد سوى كلمتين: الشعر لفظُه دالٌّ عليه.
يسعى أحدهم سعيًا غير مبارك -ولا مبروك له؛ بل عليه- ليكون شاعرًا (هكذا) دون أن يكتب على امتداد مساحة عمره بيت شعر يمكن التعويل عليه.
وهذا الزّعم بقول الشعر، مع ما فيه من البهتان والتضليل، زعمٌ باطل لا يستقيم أمام وعي المتلقّي؛ فضلًا عن مقاييس العقل والنقد والاحتكام إليهما.
هناك فرقٌ -فرقٌ بيِّنٌ- ما بين صوت العاطفة، وفخامة البيت، ودوزنة القافية، وجزالة اللفظ، وما يصحبها من تشبيهات بيانية، واستعارات بلاغية، وانزياحات لغوية، وبين صوت خالي العاطفة، بارد القافية، لفظه قائم على التجميع دون استواء، أو ترابط، أو دلالة وحسن توظيف؛ فكأنّما «النّص» ثوبٌ خرِب، وقطعة بالية، ومن ينتسب إليه كحاطب ليل قد أغرته الظلمة، واستهوته العتمة، وأغراه خبال مَن يصفّقون له ويثنون عليه.
وهذا النمط من البشر يعتورهم ما يعتور «المريض النفسي» الذي يرى صحة عقله في التهريج ولعب الصبيان، ولا سبيل لعلاجه من هذا المرض العضال إلّا بإعادة اللعب مرّة تتلوها مرّة، والتهريج يتبعه تهريج، حتى ظنّ هذا المسكين أنّ هذا اللعب جدّ غاية الجدّة، وهذا التهريج ضربٌ إلى الغاية، وصوتٌ من الحكمة، وهذا ديدن المرضى لا ديدن العقلاء.
في عصرنا هذا تكاثر من يسمّون أنفسهم شعراء، حتى غدوا «سُبَّةً» في حق الشعر، وسُبَّة في حق الشعراء.
وهؤلاء المنتسبون لقول الشعر، قوم لهم سيماهم التي لا يختلطون فيها بغيرهم، فهم جميعًا من غير أهل الشعر؛ فضلًا عن قوله أو قرضه، وهم جميعًا لا ينتجون شعرًا، ولا يقرأون شعرًا؛ لأنّه شعر، ولكنّهم دعاة «بهرج» و»زيف»؛ لأنّهم لو قرأوا شعرًا حقًّا لألبسوا أنفسهم ثوب الحياء، وألسنتهم رداء السكوت، وخجلوا على عقولهم عن التباري في الزّعم بكتابة الشعر أو نظمه.
سمعوا أنّ الشعر كلمات يجمعها بحر وقافية، فسوّلت لهم أنفسهم -الأمّارة بالسوء- فكتبوا «كلمات» مرصوفة، لا يجمعها إلّا ما يجمع «ما اختلط بعظم»، فأصبح «العظم» شعرًا تنفر منه القلوب كما تنفر منه العقول.
وهذا -والله- ضلال مكشوف عن معنى الشعر حديثًا وقديمًا.
ورحم الله جدّنا المتنبي حينما قال:
تَصْفُو الحَياةُ لِجَاهِلٍ أوْ غَـافِـلٍ
عَـمَّا مَضَـى فِـيهَا وَمَـا يُتَـوَقَّـعُ
وَلِمَنْ يُغَالِطُ فِي الحَقَائِقِ نفـسَهُ
وَيَسومُهَا طَلَبَ المُحالِ فَتَطْمَعُ