عندما يكتب الكاتب الذي يحترم قراءه كما يحترم نفسه، وينزلهم منزلتهم الميمونة، كما ينزل نفسه التي بين جنبيه منزلتها، ويقدِّر فكره وعصارة عقله، كما يقدِّر أفكارهم ونتيجة رؤاهم؛ فهو لا يكتب إلاَّ ما يعتقده ويؤمن به؛ لأنَّه لا يكتب للتندُّر والتسلية والتفكُّه.. ولا يكتب لامتحان عقله بتزجية الفراغ والتسكُّع ما بين مواقع التواصل.. ولا يكتب بالسعي نحو ملء السطور بالعبارات الباهتة، والجمل المكرورة.
فليس -وأيم الله- هذا ممّا نرتضيه لنا، ولا ممّا يرتضيه القراء الكرام لأنفسهم.
لماذا؟
لأنّنا لا نكتب إلاّ للقارئ الذي نشترك معه في همٍّ فكري، أو همٍّ أدبي، أو همٍّ مجتمعي، فليس بيننا إلاّ مصلحة واحدة يجتمع عليها العقلاء، لا ينازعنا فيها إلاّ (الغشيم) في عالم الفكر، والأدب، والثقافة، ولا يماحك فيها إلاّ (البليد) بعالم الحياة، والحق، والجمال.
فما أغنانا عن «وجع الرأس» بوضع ثلاثة أصابع من اليد اليسرى، يستوي فيها الإبهام والسبابة؛ لكتابة مقالة لا تأخذ بضع دقائق في شأن من شؤون التسلية، وما شاكلها من أقاويل التندُّر والتفكّه، ليكون لما نكتبه رونقه وبذاخته وأنسه عند قبيل من أبناء آدم وحواء، ولتروق عند جمع من الدهماء، وقبيل من الرعاع، بحيث يستوي فيما نكتب حديث المجالس والاستراحات، وأحاديث المهرّجين والسامجين..!!
وما أغنانا عن «وجع الرأس» بتمرير تلك اليد اليسرى -أيضًا- لكتابة عبارات التبجيل، وكلمات التطبيل، والمديح الكاذب، والتزلُّف الماسخ، لنسلم من رسائل القدح، وسوق التُّهم، التي عادة لا يسلم منها أي أحد، منذ أن خلق الله أبانا آدم، وأمنا حواء..!!
وما أغنانا عن «أوجاع الرأس»؛ وأمامنا أيسر طريق، بفتح حساب في إحدى منصّات التواصل الاجتماعي، لسرقة الكلمات والعبارات التي تروق والتي لا تروق، وضمّها تحت الحساب، كعادة بعض لصوص شبكات التواصل، يصحبها ثلة من المتابعين الوهميين؛ لإعادتها والإعجاب بها.
إنّ الكاتب -مجازًا- الذي لا يكتب إلاّ لإرضاء الناس، والسعي نحو ابتغاء رجائهم، كاتب لا يستحق أن يُقرأ له؛ لأنّه كاتب «منافع»، وصاحب «صاحب»، وصكّاك «معاريض»؛ فهو كمن يقدّم قربانه أمام منافعه، ومهاده قبالة مرتجاه.
وحاشانا، وحاشا قراؤنا الكرام ممّن يريد أن ننزل إليه نزولاً مترديًّا؛ فكرًا، وأسلوبًا، وبناءً، ورؤيةً..!!
* منحنى:
كان النقاد يسألون المسرحي النرويجي هنريك إبسن:
ماذا يريد من تصوير هذه الخلائق المشوّهة؟
فكان جوابه الذي لا جواب فيه:
إنّ عملي أن أطرح الأسئلة والمشكلات، وليس عليّ أن أجيب عنها؟.