تصوَّروا معالِجًا (شعبيًّا) لديه بعض إلمام بقشور الطب الحديث، ومع هذا لا يستطيع قراءة أكثر مصطلحاته -مع أنها مكتوبة باللغة العربية- وإنْ قرأها فلا ينطقها نطقًا صحيحًا، بربكم هل منكم من يثق بوصفاته (لا في مجال الأعشاب) وإنما في مجال الأدوية والعلاجات التي لا يصفها إلا الأطباء المختصون؟.. أجزم أن الجميع لا يثق به خصوصًا والأمر يتعلق بصحة الجسد التي لا تقبل الخطأ ولا الاجتهاد.
ما بالنا إذن ونحن الذين لم نفرط في صحة أجسادنا، نأتي فنفرط في صحة أرواحنا؟. وصحة أرواحنا هنا أعني بها ما يتعلق بالجوانب الإيمانية التي تقوم على هدي القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية. من هذا المهاد ننطلق للشاهد في قضيتنا، الذي يتعلق بثلة ممن يُطلق عليهم (مفكرون)، بمعنى أنهم أصبحوا على درجة من الاجتهاد، تمكنهم من طرح أفكار عميقة في عدة قضايا شائكة؛ حيث تَظهر لنا من حين لآخر عبر الوسائط المختلفة أسماء عربية تتم محاورتها في عدة قضايا، وتحديدًا ما يتعلق منها بالقرآن وقضايا تجديد الخطاب الإسلامي والمعاصرة. هؤلاء عندما يسترسلون في أحاديثهم تأخذك الدهشة من ثراء معارفهم وجمال منطقهم، حتى لتظن أنهم قد لامسوا الحقيقة، خصوصًا وقد طعَّموا كلامهم بمصطلحات فلسفية ونظريات حديثة تجعلهم بهذا يصادرون آفاق التوقع لدى المتلقي، لكنَّ فورة الدهشة لدى المتلقي سرعان ما تخمد عندما ينسى المفكر نفسه؛ فيذهب للاستشهاد بآية أو آيتين من القرآن، فتهدم قراءتُه (البليدةُ) ما بناه من صرح في ذهنية المتلقي، عندها يصل المتلقي إلى قناعة تامة بأن هذا الذي لا يجيد قراءة آية أو آيتين من القرآن غير جدير بالتصدي للقرآن وقضاياه، وهنا أنبِّه على أن الإتقان أو الإجادة ليس المقصود بها (إتقان أحكام التجويد)، فهذه مرحلة متقدمة جدًّا؛ إنما المقصود بها القراءة العادية؛ بحيث لا يأتي بحركات تخل بمعنى الكلمة أو لا يأتي بكلمة مكان كلمة.
وحتى نأتي بالدليل، فها هو أحدهم -في حوار تلفازي- يقرأ «نحنُ نقصُّ عليكَ أحسنَ القَصَصِ»، والشاهد هنا في كلمة القَصَص التي قرأها بكسر القاف هكذا (القِصَص)، ومعلوم الفرق الجلي بين القَصص بفتح القاف والقِصص بكسر القاف، ولذلك تراه وقد انطلق من قراءته تلك ليبني عليها أن القرآن هو مجرد (قِصَص) تُحكى، وهو يظن بأنه لم يضل الطريق، خصوصًا وقد استشهد بالقرآن على القرآن، وهو لا يعلم بأنه قرأ الآية قراءة خاطئة جعلته يفسرها تفسيرًا مضحكًا.
وهذا مفكر يقرأ «والسارقُ والسارقةُ فاقطعُوا أيديَهما...»، حيث قرأ كلمة (أيديَهما) هكذا (أيديَهُنَّ)، وهذا مفكر يقرأ «وأوفُوا بالعهد...»، حيث قرأ كلمة (وأوفُوا) هكذا (ووفُّوا)، ومعلوم هنا الفرق بين المعنيين، وهذا مفكر يقرأ «وأوحينا إلى موسى..»، حيث قرأ كلمة (وأوحينا) هكذا (وأوصينا)، وهذا مفكر يقرأ «ثُم جعلناك على شريعة من الأمر...»، حيث قرأ كلمة (جعلناك) هكذا (أقمناك).
هذه شواهد عاجلة لعينة بسيطة ممن يسمون مفكرين، ولا إشكال في المسمى إطلاقا؛ إنما الإشكال في أن هؤلاء المفكرين ظنوا أنهم قادرون على تفسير القرآن وتحليله، بوصفهم مفكرين ليس إلا، ونسي هؤلاء أن أُولى خطوات الفتوى أو التفسير أو تحليل الخطاب هي إتقان الخطاب قراءةً ومعنى، ثم الانطلاق بعد ذلك إلى الغاية مستصحبًا الممكنات والوسائل المعينة، وليس مجرد الركون إلى الرأي المجرد.
هذه الشواهد السالفة أتت في بعض اللقاءات ضمن حلقات برنامج فكري في قناة فضائية، حيث يُعنى البرنامج بمثل هذ القضايا، ويستضيف لها بعض المفكرين العرب. العتب هنا لا يقع على هؤلاء المفكرين قدر ما يقع على مقدِّم البرنامج (المحاوِر السعودي)، الذي لا أظنه إلا يُتقن قراءة القرآن، ثم تقع على سمعه هذه القراءات الخاطئة المضحكة لآيات القرآن من ضيوفه (المفكرين) ولا يعمل على تصحيحها لهم، بل ويسمع منهم آراء غاية في الغرابة، وعدم الموضوعية، وفيها قفز على الحقائق، فلا يسألهم عنها وهو يعلم أنه يمثل الطرف الآخر (المتلقي)، الذي ينبغي أن يطرح رأيه بدلًا منه؛ كون المتلقي غير حاضر معهم ليرد ويطرح رأيه.