لعلّ أخطر ما يواجه الفردُ في المُجتمعات المدنيّة الحديثة، هو الاستنزاف، فكلُّ ما يتعامل معه من مسؤولياتٍ وارتباطات وقنواتٍ تواصلٍ وإعلام، يتفنّن في إنهاكه التّدريجي، واستهلاكِ طاقته البدنيّةِ والنفسيّة، عن طريق استفزاز انفعالاتِه، وتشتيتِ انتباهه بالغرقِ في أنواع الضّجيج الأسود، وإرباكِ اهتماماتِه وأوّلياته، بحيث لا يبقى له طاقةٌ فعّالة لصرفها في تنميةِ الثّراء الداخلي وتطويرِ المَهاراتِ الإبداعيّة.
لقد وصلَت المُعاناة الإنسانيّة نتيجةَ الإجهادِ العاطفي لدى مُعظم الناس، إلى درجاتٍ أكبر من قُدْراتهم على الاحتمالِ والاحتواء، فازديادُ احتقان المَشاعر وتراكمُ الضُّغوطات النفسية، يُنذران بوباءٍ يُدمّر الأعصاب ويستهلكُ المُرونة، ويتسبّب في انحسار الطُّمأنينة النفسية، وتفشّي العُنف الاجتماعي بصوَرهِِ القبيحة المُختلفة.
وقد يُحاول بعضُ أقرب النّاس إليك استدراجَك والتلاعبَ بمشاعرك، والحصولَ على مُبتغاهم منك بتعميقِ شعورِك بالذّنب تجاههم، واللجوءِ إلى أسلوب تنمّر مُستتر يُسمّى "الابتزازَ العاطفي" بواسطة تأنيبِ الضمير وعقدةِ التقصير، فإذا استقرّ ذلك في نفسِك، سَهُل عليهم ابتزازَك عاطفياً، وجرَّك إلى الوقوع في فخّ المُقايضةِ والتبرير.. كُن واثقاً، ولا تبرّر.
التضحيةُ في العَلاقات الشّخصية، عبارةٌ عن تنازلاتٍ وقبولٍ على مَضض، وتحمّل لفتراتٍ طالَت أم قصُرت، لا تلبثْ أن تُعطي شعوراً مُزعجاً بالغُبن والظُّلم، وتؤدّي غالباً إلى الاستنزافِ والاستهلاكِ النفسيّيْن. كما أنّ التسويةَ في العَلاقات الشّخصية في حقيقتها، تنازلُ أحدِ الأطراف عن مبدأ مُعيّن، وإعطاؤه الحقّ للغير بالتّمادي في الاستحواذِ والاستغلال.
يبدو لي أنّ فكرةَ العطاءِ بلا حُدود، والإيثارِ والتّضحية في سبيلِ الآخرين، أخذَت أكبر من حجمها، وهي مجرّد استعمالٍ جذّاب لأولئك الذين يظنُّون أنّها طريقٌ أوحدٌ لبذل الخير، في حين أنّها يُمكن أن تكونَ طريقاً للخرابِ النّفسي، وشكلاً من أشكالِ الغباءِ العاطفي. وكما يُشير الدكتور (مصطفى محمود) فإنّ مُشكلة المرأةِ بالذّات، أنّها تتفنّن في استهلاكِ الطّاقة النفسيّة للرجل، عن طريقِ استنزافِ أغلى ما يملكُه.. وهو الاهتمام.
ومع نُضجك الفكري وتراكُم التجارب وخيباتِ الأمل، قد تشعرُ بالإنهاك، وتُصاب بالإِعياء، ويصلُ بك الاحتراق النّفسي إلى تغييرِ رؤيتك وضبطِ تفكيرِك وتعديلِ سلوكك، وتفادي التفسيرِ والتبرير، ثمّ تتخلّص من بعضِ الأعباءِ والارتباطات، وكثيرٍ من الناس، وتستغني حتى عن الشّغف.. إذ يَظهر ما يُسميه الناس بالشّغف، كسرابٍ آخرَ في طريقِ الحياة.