من الخطأ الاعتقاد أن أمريكا والغرب في أفول وانحسار. ما يحدث الآن هـو إعادة بناء النظام العالمي بشكل يناسب القوى الدولية والإقليمية اللاعبة فيه. من المتوقع أن تسيل دماء وتتغير خرائط. والدماء تسيل فعلاً في أوكرانيا، وكذلك مناطق أخـرى من العالم (اقتصرت في الوقت الحاضر على إفريقيا). فلا الصين ولا أمريكا ولا روسيا مستعدة للتخلي عن موقعها في خريطة القوى بالعالم بسهولة، بل سيقاوم كل منها هذا الأمر. وجميعها، القوى الثلاث، لا ترغب الدخول في مواجهة مباشرة مع بعضها البعض، تجنباً لقتال بالأسلحة النووية، وتعالج الأمر باستخدام أراضي غير أراضيها، وضحايا من دول أخرى، وتسيل الوقت الحاضر دماء أوكرانيين في الغالب الأعم على الجبهة الأوروبية في مواجهة روسيا، فيما تسيل الدماء الإفريقية في أكثر من موقع على ساحة القارة الإفريقية. تمهيداً لمواجهات متوقعة أخرى في مناطق بعيدة وقريبة. وكل هذه (الأضاحي) تُقدَّم إعداداً لنظام عالمي جديد.
أمريكا تجد صعوبة في إقناع عدد أكبر من قادة العالم الوقوف معها في مواجهتها الاقتصادية ضد الصين، والعسكرية ضد روسيا. والسبب في ذلك أمريكي صرف، إذ تبشر واشنطن بقيم مبادئ سمحة وجميلة، وترفض هي التقيد بها. وأعجبني تعبير لكاتب سعودي (الدكتور خالد محمد باطرفي) في مقال كتبه مؤخراً لصحيفة (النهار) اللبنانية، يصف فيه الأفعال الأمريكية قائلاً: «أمريكا ليست قدوة في حقوق الإنسان، ولا المثل في الحرية والمساواة والعدالة، ولا بريئة من الجرائم ضد البشرية».. وفي ظل المعارك التي تخوضها النخب الأمريكية المنقسمة بشكل رئيسي بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري، والأسلوب البشع الذي تمارس به (اللعبة الديمقراطية) في واشنطن، فإنه من الصعب الإعجاب بالديمقراطية الأمريكية، بينما الشعب الأمريكي منقسم ويخاصم بعضه البعض ويتشرد كثيرون منه باسم الديمقراطية.
واشنطن، والغرب بحاجة إلى إعادة النظر في قيمها ومبادئها، حتى يمكن لدول العالم الثالث تقبلها والسير معها. ولا يعني هذا أن القوى الأخرى تقدم نماذجاً أفضل من النماذج الغربية، بل إن النموذج المحلي في كل بلد لازال هو الأفضل، طالما يحقق الأمن والاستقرار والنمو والحرية لمواطنيه.
صحيح أن الصين تسعى لتقديم نموذج آخر للحكم يختلف عما يقول به الغربيون. إلا أن الأهم من كل هذا الرخاء الاقتصادي الذي يمكن أن يوفره أي نموذج حكم، وأي علاقة مع قوة اقتصادية أخرى. وفي الوقت الحاضر تقلصت التجارة فيما بين أمريكا ودول الخليج، لأن إنتاج النفط الأمريكي، يوفر ما يكفي لما تحتاجه أمريكا للطاقة فيها، بالإضافة إلى حرب بعض نخبها للبترول ومشتقاته. وقد حرصت الإدارة الأمريكية على تأكيد اتجاهها إلى آسيا في مواجهتها للصين، وتخليها عن منطقة الخليج. ومقابل الانكماش الاقتصادي لأمريكا مع دول الخليج؛ تجد الصين قد أصبحت أخيراً أكبر مستورد للنفط من الخليج، وتشارك في مشاريع متعددة بدون وضع شروط مسبقة أو ممارسة ضغوط إعلامية أو سياسية على الخليج ودوله.
النظام العالمي الجديد يشاهد بروز قوى عالمية جديدة، على رأسها المملكة العربية السعودية، يمكن أن تساهم بتشكيل نظام عالمي مقبول لمعظم دول العالم. وفي مقال أخير له في جريدة (الواشنطن بوست) قال فريد زكريا: إن صندوق الاستثمار السعودي (AIF) يتوقع أن يكون تحت تصرفه «أكثر من اثنين بليون دولار عام 2030، مما يجعله أكبر صندوق في العالم.. وأن منطقة الخليج سوف تصبح المنطقة الأهم في الكرة الأرضية التي يمكن لها توفير الاستثمار للعالم». وأكد: إن تساءلت عما هو الاقتصاد الكبير الأكثر نمواً العام الماضي، فإنك لن تجد الهند أو الصين أو أي من نمور آسيا، وإنما هي السعودية التي نمت بنسبة 8.7%.
لذا، فإن مستقبل العالم سيكون إلى حد ما معتمداً على السعودية وقيادتها في إدارة النمو الاقتصادي العالمي.