لعل كثيراً من القراء الكرام يتذكرون الطفلة التي التقى بها الكابتن ياسر القحطاني قبل سنوات في أحد البرامج التلفزيونية، وعندما سألها عن أسرع طريق للشهرة، قالت ببراءة: (تبي تصير مشهور.. ارقص). كانت إجابة عفوية بريئة، استقبلناها بروح المرح والطرافة، لكننا نكتشف كل يوم أنها كانت إجابة واقعية وصحيحة ١٠٠٪، فأسرع طريق اليوم نحو شهرة وسائل التواصل المجلجلة؛ وربما الثراء، هو أن يرقص الشخص ويرقص، حتى يُكتب عند (قطعان التواصل) رقّاصًا!.
والدعوة للرقص - كحل للمشكلات المالية - ليست جديدة، ومنها المشهد الشهير للممثل عادل إمام في مسرحية (شاهد ما شافش حاجة)، عندما علم أن فرّاش المحكمة يتقاضى سبعة جنيهات، ويعول أسرة من سبعة أفراد، فلم يجد ما يساعده به على حل هذه المعادلة المختلة غير أن يقول له: (اتكل على الله واشتغل رقاصة).. لكن الجديد هذه الأيام هو؛ أن الرقص لم يعد بالجسد وشحوم البطن والأرداف فقط، بل يمكن أن يكون - وهذا الأخطر والأبشع- رقصًا على المبادئ والأخلاق، أو على الأديان والمقدسات والأوطان، وصولًا للتراقص على جراحات الناس وآلامهم، أو على عذابات الطفولة.. باختصار رقص فوق كل شيء، وبيع لأي شيء، المهم أن تتحقق الشهرة، ونصل لـ(الترند)، ومن ثم سيأتي المال لا محالة.
ولأن شهرة الرقص لا تحتاج إلى خبرات، ولا إلى شهادات، قدر ارتباطها بالشذوذ، والتنازلات ونزع الحياء، بتنا نرى هبوطًا غير متناهٍ في القيم الإنسانية، وبيع رخيص لكل ما وضعه الأنبياء والمصلحون والفلاسفة عبر آلاف السنين من التراكم المعرفي والثقافي، كل ذلك يُنسَف بلا هوادة بحثًا عن تصفيق أبله، أو (لايك) تافه.. فهؤلاء أبناء يرقصون على جثث آبائهم ومعلميهم، وأولئك نكرات يُسفّهون مجتمعاتهم ويتنكرون لأوطانهم ويبيعون أنفسهم للشيطان، وذاك يتاجر بخصوصية أسرته وتفاصيل حياته الدقيقة!.. الكل يرقص طالما بقيت مكائن وسائل التواصل تبحث عن الهراء وتكافئ عليه.. والمبدأ (الشغّال) هو: ارقص على كل شيء طالما أنه يأتي بالمال، بعد أن طغت الحياة المادية، وتضخمت النزعة الاستهلاكية، وغمرت كل شيء، وأصبح المال هو الوسيلة والهدف معاً.
لا أريد أن أبدو سوداويًا متشائمًا، لذا سأختم بطرفة للأديب الكبير نجيب محفوظ، أرجو أن تُضحككم أكثر مما تؤلمكم، حيث يقال إن إحدى الراقصات المشهورات؛ والثريات طبعًا، رأت الأستاذ وهو يهمّ بركوب سيارته (المهترئة)، فقالت له على سبيل التهكم: «شفت عمل فيك الأدب إيه يا أستاذ نجيب»!.. فنظر إلى سيارتها (المرسيدس) قبل أن يقول بتهكمٍ أكبر: «وشفتي أنتِ عملت فيك إيه قلة الأدب؟!».