يمنح الله سبحانه وتعالى بعض البشر روحًا جميلة ووجهًا صبوحًا، كان لي صديق من هذا النوع، ومن شدة وضاءة وجهه وجمال روحه ودك تتصبح بوجهه وتعيش مع روحه كل يوم، عرفته منذ زمن بعيد، لسانه رطب بذكر الله ومنطقه يقتنع به العقل، تنساب الحكمة من بين جنبيه وترتاح عندما تتحدث إليه، كان يشار إليه انه أحسن من عرفنا دينًا وخلقًا وجمالاً، واليوم هو بين دفتي التراب وبين يدي رب الأرباب رحمه الله رحمة واسعة، آثار ذكراه شيء من الماضي، مما جعلني أقول:
«الله يا وقت مضى.. لو هو بيدينا ما يروح»، يوم أن كنا يا صبوح الوجه وجميل الروح نسرح ونمرح في بساتين المدينة نردد أغنيتنا المحببة إلى أنفسنا كثيرًا: (في ربوع المدينة وروابي قباء)، يوم أن كان صوت مكائن الآبار الارتوازية في البساتين يدوي على نغم واحد وتتنقل على فروع الأغصان الطيور لتشاركنا في نغم الحياة وكنت يومها أكره أن أرى في البلاد (البستان عند أهل المدينة) من يصطاد تلك الطيور ببندقيته أو (نبيلته) المصنوعة من الخشب والمطاط.
«الله يا وقت مضى.. لو هو بيدينا ما يروح»، يوم أن كنا نذهب إلى سيدنا حمزة لنزور شهداء أحد ونرقى جبل الرماة يوم أن كان على هيأته الطبيعية ولم تمتد اليه أي تغيرات، نزور ونسلم ونتصدق وكنت يا صبوح الوجه وجميل الروح تحدثنا عن تلك المعركة ومن كان فيها من الصحابة والصحابيات ممن كان يدافع ويحمي رسول الله وتحفنا زوايا في جبل أحدٍ نستظل تحت ظلالها، فنتذكر أنها المعركة التي خلدت سيرة سيدنا حمزة عم رسول الله يوم أن عاد الناس منها ولم يعد عم الرسول، فالكل بكى من فقد من أقاربه إلا حمزة رضي الله عنه فلا بواكي عليه، فأصاب ذلك أثرًا في نفس رسول الله صل الله عليه وسلم فبكينه سيدات من نساء الأنصار.
«الله يا وقت مضى.. لو هو بيدينا ما يروح» كنا نذهب إلى قباء لنصلي ركعتين تعدل عمرة وعندما كنا نذهب إلى أبيار علي ونجلب الماء بالدلو وتنتعش نفوسنا برائحة نعناع المدينة ونرى من بعيد محطة تلفزيون المدينة في بداية نشأتها فتذكرنا بأناشيد الأطفال، كان زمناً جميلاً وأجمل منه أهل المدينة يومها، الكل مع الكل يساعد الكل، الحب للكل والتزاور للكل.
«الله يا وقت مضى.. لو هو بيدينا ما يروح» يوم يحل العيد لتنتعش المناخة ومراجيح المناخة فتمنحنا حياة السعادة ممزوجة بعبق النبوة حيث إن ذكره عليه السلام مسك منثور في كل جوانب طيبة الطيبة.. ويوم نزول المطر يذهب أهل المدينة صغيرهم وكبيرهم، غنيهم وفقيرهم إلى سد عروة وعلى جنباته تفترش الأرض ويستمتع الكل ما بين الخضرة ومياه السيل الجاري وذلك وقت مضى ولحظات لو هو بيدينا ما تروح..
تلك هي شيء من مشاعر الماضي يا صبوح الوجه، هبت رياح الذكريات فأثارت ما تبقى في القلب من لحظات تلك الأيام والليالي في المدينة المنورة، في الحصوة والروضة والرواق، في المناخة والعنبرية وحارة الأغوات، في قباء وباب المجيدي وباب الكومة، في السيح والعطن وزقاق الطيار، في سيدنا حمزة والقبلتين والسبعة المساجد وسبيل محمود، في البساتين وطلعات البر كلها وقفات لأيام مضت لو هي بدينا ما تروح، فإذا كان ذكرى الحبيب والمنزل تستحق الوقوف كما قال الشاعر:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فكيف إذا كان الحبيب هو محمد صلى الله عليه وسلم ومنزله هي طيبة الطيبة؟.