في بادرة إنسانية واجتماعية رائعة، قامت أمانة العاصمة المقدسة بتكريم عدد من الحجاج من دولة الصين، وذلك بعد انتشار مقطع فيديو مُصوَّر في وسائل التواصل الاجتماعي وهم يقومون بالتقاط المخلفات من أحد الإنفاق في المشاعر المقدسة.
وقد تباينت وجهات النظر في مواقع التواصل الاجتماعي، فمنهم مَن انتقد هذا التكريم، لأن تلك الأعمال هي من صميم أعمال الأمانة، وأن ضعف أعمال النظافة من العمال والمراقبين والمشرفين؛ هي السبب وراء تراكم النفايات، وأنه لم تستطع بلدية العاصمة المقدسة حتى الآن التغلب على مشكلة النظافة في المشاعر المقدسة. بينما آخرون كانوا أكثر حيادية واتزاناً، وأن بعض الحجاج يأتون من ثقافات متنوعة وبيئات فقيرة لا تُقيم وزناً للنظافة. وحقيقة هذا لوحظ حتى في مخيمات الحجاج، ففي الوقت الذي تكون فيه الحاويات قريبة منهم، فإنهم يرمون بقايا الأطعمة وقشور الفاكهة على جانب المخيم دون أي اعتبار بأن هذا السلوك يعمل على تلوث البيئة، ناهيك عن رمي اللحوم، حيث إن بعضهم نباتيون ومن بيئة فقيرة لا تعرف سوى العدس والبطاطس، وهذا ما يجب أن يُرَاعى في باقات الحج، ومع بعثاتهم لنوعية الطعام المقدم لهم.
لستُ بصدد الدفاع عن أمانة العاصمة المقدسة في مشاريع النظافة ومسؤولياتها عن الإصحاح البيئي، حيث وفرت هذا العام حوالى ١٤٠٠٠ وظيفة من عمال، ومراقبين، ومشرفين على النظافة، كما تم توفير (٩١٢ معدة وآليات كنس ونظافة)، إلى جانب تشغيل ست محطات انتقالية، وتوزيع تسع شاحنات نظافة ضاغطة ومخازن أرضية (١١١ مخزناً أرضياً)، و١٠٧١ صندوقاً ضاغطاً موزعة على المشاعر لاستخدامها وفق الخطة التشغيلية، ولكن مهما تكن الجهود فلن تفلح بغياب الوعي الإنساني بأهمية النظافة؛ وكما قال الشاعر يوماً:
متى يكتمل البنيان تمامهإذا كنت تبني وغيرك يهدموحقيقة، مشكلة النفايات في المشاعر المقدسة أزلية، ولم تفلح حتى شركات كبرى في التغلب عليها، وأرى أن قصور التوعية للحجاج هو السبب الرئيس في المشكلة، فأحد أهم أهداف رؤية ٢٠٣٠ هو إثراء التجربة الدينية والثقافية لضيوف الرحمن؛ وإن كانت هناك بعض التوعية بفضل ما تقوم به بعض الجهات، مثل: الخطوط السعودية في برامج الرحلات، أو بعض الشركات لحجاجهم، فإنها تقتصر في معظمها على التوعية الصحية، وتجنب مخاطر ضربات الشمس، والتوعية بالرخص الشرعية للنساء وذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن.
وحقيقة، فإن مشروع تعظيم البلد الحرام الذي أحد أهم أهدافه تأصيل معنى تعظيم البلد الحرام في قلوب المسلمين من الوافدين إليه من الحجاج والمعتمرين؛ لابد من تطبيقه في التوعية؛ وهذا ما قاله الحاج الصيني حينما تم تكريمه في أمانة العاصمة المقدسة، حيث عبَّر عن شكره وتقديره لما تقوم به الحكومة السعودية من جهود في خدمة الحجيج، ثم أضاف: «إن مكة هي العاصمة المقدسة، ويجب على كل حاج أن يحافظ على نظافتها، وأن يجعل هذا البلد مقدساً ونظيفاً».
إن مقطع التنظيف للحجاج الصينيين؛ من الممكن أن يُعرض في جميع رحلات خطوط الطيران للقادمين للحج والعمرة بالتعاون مع (الآياتا- IATA)، وأن ينتشر على نطاق واسع لممثلي الحجاج من البعثات وشركات الحج لتوعيتهم في بلادهم؛ بل ويضاف إليه القيم السلوكية في مكة؛ فهي بلد الله الحرام، فلا يُسفك فيها دم، ولا ينفر صيدها، ولا يقطع شجرها، ولا تنتهك فيها حرمة.
وليس أشد من الحرمة في مكة من رمي المخلفات والإفساد فيها. كما أن توعية الحجاج في بلادهم أمر ضروري؛ فمن جهود وزارة الحج هذا العام - ممثلة في مركز ترخيص وتدريب العاملين في خدمة ضيوف الرحمن – إقامة دورة تدريبية قيمة في ماليزيا بهدف رفع جودة الخدمات المقدمة للحجاج، وإثراء تجربتهم الدينية والثقافية؛ وكم نتمنى أن تطبق مثل هذه الدورة لحجاج العالم الإسلامي ككل، وأن يُركَّز فيها على النظافة كقيمةٍ سلوكية مهمة جداً لتعظيم هذا البلد الحرام، وتتناسب مع قيم ديننا الإسلامي الحنيف، لنبرهن للعالم بأننا أمة ذات حضارة، حتى في أكثر التجمعات ازدحاماً.
والسؤال الهام هنا: هل تقوم كدانة بدورها في المشاعر المقدسة؟، ليس فقط في البنى التحتية واكتمال جاهزية المخيمات ودورات المياه وصيانتها وغيرها.. ولكن باستخدام الذكاء الاصطناعي في جمع النفايات في الأنفاق والممرات، وهي تقنيات لا تعجز عنها إرادة خدمة ضيوف الرحمن وفق أعلى المعايير.
تعظيم البلد الحرام.. والتجربة الدينية والثقافية للحجاج
تاريخ النشر: 25 يوليو 2023 22:32 KSA
A A