أنظر لساعة جوالي؛ إنها الخامسة.. أبتسمُ، وأتذكر أن علي مكي، صديقنا الصحفي النشيط، عزَمنا على الغداء اليوم.. لعله نسي، ولعلنا نسينا أيضاً.. كان الإنترنت أحد مشاكلنا؛ كنا في تونس، في مهرجان الشعر، حشد من المثقفين والنقاد والشعراء.. وأراد علي مكي أن يجمعنا في مطعم شهي الطعام والإطلالة.
رسالة خاصة في تويتر؛ علي يذكّرنا بالغداء، ويطلب مني تذكير سعيد السريحي.. أذكّره بغداء مضى على موعده ثلاث ساعات! كنا على شرفة زرقاءِ الروح في سيدي بو سعيد، ولاحظت أن السريحي، قبل بساعتين، طلب الغداء، غداءَ الفندق، ومثله فعل عبدالله ثابت، وهاشم جحدلي، وصالح زمانان.. أنا انتظرت... كنتُ معزوماً وانتظرت.
على تلك الشرفة، اكتشفتُ ولعَ علي مكي بمحمود درويش، وأدهشني حفظه لقصائد درويشية كاملة، وعلى تلك الشرفة اكتشفتُ أيضاً أن الوقت قد مضى، وأن الجوع قد لعب بي، فاتني الغداء، ولحقه العشاء، تكفلتْ أمسية شعرية ثم جلسة ثقافية بذلك.. كنا في خضم حديث عن حاضر الصحافة، والمؤسسات الصحفية، وعن مستقبلها الغامض، في ظل ما تمر به الصحافة من تحديات.. حال الصحافة الثقافية أصعب وأكثر تعقيداً.. تذكرتُ سنين الصحافة والنضال من أجل الثقافة، الحيل والتكتيكات من أجل حوار، أو تقرير، أو خبر، وتذكرت كذلك المعارك التي خضناها من أجل الحفاظ على صفحات الثقافة في موعدها المحدد.. لم نكسب كل المعارك بطبيعة الحال، لكن الثقافة انتصرت.. في معمعة الذكريات سمعتُ معدتي تموء، كقطة شوارع لا يستلطفها أحد، ولا يعطف عليها.. حولي أكواب الشاي والقهوة الفارغة.. لا غداء، ولا عشاء.. زاد اليوم شعر، وصحافة، وثقافة.. أجري على الله.
في الصباح الباكر، استيقظت على رسالة مستعجلة: «اليوم موعدنا للغداء.. سننطلق الواحدة ظهراً.. كن جاهزاً، وليكن الدكتور سعيد كذلك».. كان علي مكي مرة أخرى.. قرر أن يعوضنا عن غداء الأمس.
في الموعد المحدد، حضر علي هذه المرة؛ السريحي نجا بجلده، ولم يحضر.. (سعيد السريحي اهْربْ، كما يقول التوانسة).. بقينا في سيارة الأجرة ثلاثة: علي، وهاشم، وأنا.. «سنمر على الفندق ونجري حواراً سريعاً مع صبحي حديدي، ثم ننطلق للغداء».. هكذا شرح مضيفنا، ولم يكن بأيدينا سوى الإذعان.. وصلْنا، ووصل ضيفنا، وبدأنا حواراً ثقافياً وفكرياً رائعاً عن الثقافة العربية، والترجمة، والشعر العربي، وعن درويش.. كان حديدي صديقاً قريباً من محمود درويش، وأطلعنا على أسرار وتفاصيل مذهلة عن حياة الشاعر وشعره.. عدتُ في تلك الجلسة المكثفة، إلى حمى الصحافة الثقافية وحماسها، كان علي محاوراً بارعاً، وصحفياً حقيقياً، لا يستسلم لمكانة ضيفه، ولا يرضى بحديث الظلال، أما هاشم فكان أستاذاً.. في جلسة واحدة، تفهم لماذا حصل هاشم على كل تلك السمعة الصحفية، وتدرك كم هو مختلف وعجيب.. كانت الخطة ساعةً ونيف (نيفٌ هذه لعبة لغوية شمطاء كما تعلمون)، المهم، حين نظرت لشرفة الفندق، كان شفق الغروب يمد لسانه لي شامتاً.. قرر زميلنا المصور أن نختتم جلستنا بصورة تذكارية في الشرفة، تلك الصورة تقول كل شيء؛ على الوجوه وعثاء معركة صحفية حامية، والبطون فارغة، تبكي غداء ذهب مع الريح.
يحاول علي أن يستبقينا، لكنني قفزت في التاكسي بجوار حديدي، وكذلك فعل هاشم.. اختتام المهرجان سيبدأ بعد ساعة، ولا يمكن أن نفوّته، حتى ببطون أفرغ من عين الحسود.. في الطريق كنا ثلاثة هياكل ننظر لبعضنا، (حديدي كان يبدو مثل توم هانكس في فيلم كاست أوي).. صباح اليوم التالي، كنت على متن طائرة عائداً إلى جدة، أفكّر في كل ما مررت به في تونس، وأضحك.
بعد أسبوع أو أكثر، كنت أقرأ حواراً شيقاً ونارياً ظهر على صفحات عكاظ، مع صبحي حديدي، شعرت أني أعيش تجربة الحوار مرة أخرى، شعرت بنهم ثقافي، بل بجوع.. نعم، شعرت بجوع، وأنا أقرأ.. أعلى الصفحة، التي كانت تغطيها صورة حديدي وكلماته، وجدتُ اسم صاحبي.. (يحاوره: علي مكي)، وعلى صفحة جوالي، في الوقت ذاته، كان الاسم ذاته يشع: (علي مكي)، تفاجأت، وشعرت بأني أحلم، لكن صوتَه أيقظني: «دكتور، هل أنت في الجامعة؟» «نعم».. «هل يمكن أن نلتقي؟ معي لك هدية، مجموعة من الكتب والمنشورات الخاصة بجامعة كاوست أود أن أوصلها لك».. «حياك الله، متى؟».. «الآن».. «يا أهلاً وسهلاً».
انتظرته متعجباً، وحين التقينا، فتحَ صندوق سيارته، وأخرج لي الهدية.. لم تكن كتباً ومجلاتٍ كما قال، بل صحنَ مندي بهيَّ الطلة شهيَّ الخُلة.. ضحكتُ من قلبي، ورقص في الجوف ثعبان.. «هذا غداك الذي وعدتك به يا دكتور»، قالها صديقي، ومضى!
اليوم يدعونا علي مكي لوجبة عشاء، ولا مهرب لنا ولهُ هذه المرة، لأنه الليلة يزف ابنته الكبرى عروساً، وسيكون من الصعب جداً أن نتخلف أو يتخلف.. اليوم نذهب بقلوب مطمئنة، وبطونٍ أكثر اطمئناناً.. ندعو لعلي، وابنته.. ولن تغيب تونس وذكرياتها، عن وجبة العشاء، لا أعتقد أنها ستفعل.